نصر شمالي

احتلت حكومة الولايات المتحدة العراق بإرادتها، وهي لن تنسحب منه بإرادتها كما يتوهم السذّج ويروّج المتواطئون، فهذا الاحتلال مدخل لمشروع استعماري عالمي البعد، يتفق في حجمه مع الحلم الأميركي بالسيادة العالمية، أي أن الاحتلال في حدّ ذاته ليس هو المشروع بل الخطوة الأولى التمهيدية على طريق تحقيق المشروع، وهو يشبه تماماً الخطوة الأولى في المشاريع الصناعية التجارية العادية التي إن تلكأت أو تعطلت في مرحلة التأسيس الأولية غير المنتجة، وعجزت عن الانتقال إلى مرحلة الإنتاج وتصريف المنتوج، تحوّلت نفقاتها إلى كارثة، وقد تعثّر الأميركيون عند الخطوة الأولى غير المنتجة (الاحتلال) فانقلبت الآمال العريضة إلى خيبات مريرة، والأرباح الفاحشة إلى خسائر فادحة!

عشية الاحتلال، قدّر الأميركيون بثقة أنهم سيبلغون مرحلة الإنتاج وجني المليارات بسرعة، ربما في العام الأول من الاحتلال، غير أن ذلك لم يتحقق بفضل المقاومة العراقية التي انطلقت منذ الأيام الأولى للاحتلال، فصار المشروع الاستعماري الضخم معلقاً في الفراغ عند خطوة البداية، وصار هاجس الأميركيين على مدار الساعة هو الخروج من مأزق المراوحة والنزيف، والنجاح في إقامة الأعمدة التي ينهض عليها مشروعهم، وسوف نعرض من هذه الأعمدة سبعة لا تقوم للمشروع قائمة من دون نهوضها:

أولاً، ضمان تدفق النفط: والنفط العراقي هو قطب الرحى، أو العمود المركزي، في المشروع الأميركي، حيث تقدّر احتياطياته بثلاثمائة مليار برميل، وحيث السيطرة عليه تعني السيطرة على الأسواق الدولية وعلى السياسة الدولية أيضاً، وقد قدّر الأميركيون أن الاستيلاء على العراق واحتياطياته النفطية سوف يتحقق بسرعة، على الفور، بعد سنوات الحصار الطويلة المميتة، وأنهم بذلك سوف يستردّون نفقات عملية الاحتلال، وينفقون على مشروع الشرق الأوسط الجديد، ويجنون فوق ذلك مئات بل آلاف المليارات، غير أن المقاومة العراقية الباسلة منعتهم من تحقيق هذا الهدف المركزي، وبدلاً من مضاعفة إنتاج النفط، مرة ومرتين وثلاث، تراجع إلى نصف ما كان عليه عشية الاحتلال في ظل الحصار!

ثانياً، إقامة حكومة تابعة: منذ بداية الاحتلال وحتى الآن يستميت الأميركيون من أجل تشكيل حكومة عراقية ألعوبة، تقوم نيابة عنهم بمهام الحكم الذاتي للسكان، وبضمان الأمن لصالح مشروعهم، وبخوض المعارك عوضاً عن جنودهم، غير أن قيام مثل هذه الحكومة يتطلب، على الأقل وفي الحد الأدنى، توفر مناطق آمنة لا تطالها ذراع المقاومة، الأمر الذي جعل محاولة إقامة مثل هذه الحكومة تكراراً عملية شكلية، مظهرية ودعائية، ومن دون جدوى!

ثالثاً، إقامة قواعد عسكرية أميركية ثابتة: فالعراق هدف كبير ثمين في حد ذاته من جهة، وقاعدة انطلاق، في الوقت نفسه، لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير الجديد من جهة أخرى، والذي هو بدوره مشروع دولي إنتاجي هائل، وبالطبع فإن مثل هذه القواعد ذات البعد الدولي لا يمكن أن تنهض قبل حسم معركة العراق في أساسياتها، وبما أن مثل هذا الحسم لم يتحقق فإن الغموض سائد بصدد مصير هذه القواعد، فيقال من حين لآخر أن بعضها قد نهض فعلاً في مناطق خالية بعيداً عن السكان، غير أن نهوضها، إن كان قد تحقق فعلاً، لا قيمة له إذا لم يتحقق إنتاج النفط وتصديره بسوية كافية معينة، وإذا لم تنجح عملية تشكيل حكومة عراقية تابعة على مساحات آمنة وكافية ومسيطر عليها.

رابعاً، السيطرة على الشعب العراقي: لقد توقع الأميركيون استسلام الشعب العراقي طوعاً لعملية تجزئته واستعباده، غير أنهم اصطدموا منذ أيام الاحتلال الأولى بمقاومته الفعالة، وهاهم يواصلون بذل قصارى جهودهم لتحقيق تجزئته واستعباده، وهو ما افترضوا تحققه بسهولة منذ الأشهر الأولى للاحتلال! إنهم يعملون اليوم باستماتة من أجل إشغال الشعب العراقي ببعضه عنهم، وإذا صدّقنا ما تبثه وسائل الإعلام، المتواطئة والكاذبة عموماً، فإن ذلك يوحي أن الأميركيين حققوا نجاحاً ما في اتجاه إشعال حرب طائفية، أو أهلية، غير أن ظواهر مثل هذه الحرب تبدو مفتعلة ومحدودة وغير قابلة للانتشار مهما كانت بشاعتها، وما توقعوه من انقسام منذ البداية يبدو اليوم، بعد سنوات من الاحتلال، شبه مستحيل إلا في حدود الافتعال، وذلك يعود إلى وعي الشعب العراقي عموماً، وإلى نجاح مقاومته إلى حدّ كبير في إدارة المعارك بصورة صحيحة.

خامساً، ضمان مساعدة دول الجوار: لقد رأينا الإدارة الأميركية عشية الاحتلال تسعى لضمان تأييد ومساعدة دول الجوار خصوصاً، والدول العربية والإسلامية والأجنبية عموماً، فكان أن حققت تعاون بعض الدول العربية وغير العربية، وفشلت مع البعض الآخر عربياً أو غير عربي، وبصدد دول الجوار فإن تعاون بعضها كان حاسماً، حيث لولاها ما أقدم الأميركيون على تنفيذ عملية الاحتلال، غير أن التعاون المباشر والتواطؤ غير المباشر لم ينجح في مساعدة الولايات المتحدة على تجاوز الخطوة الأولى في اتجاه إحكام سيطرتها على العراق والانطلاق إلى مشروع الشرق الأوسط، وهو سوف يرتد وبالاً على المتعاونين والمتواطئين إذا لم يصححوا مواقفهم المنحرفة، خاصة مع التصاعد والانتشار المتوقع لعمليات المقاومة.

سادساً، تعطيل فعالية الرأي العام: تعرف الإدارة الأميركية أن الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي يعارض سياساتها، وهي لا تتطلع إلى كسب تأييده بل إلى تحييده وتعطيل فعالياته، وذلك خشية تأثيره على مواقف حكوماته، حيث أرغمت شعوب حكوماتها على سحب قواتها من العراق، وإنه لمن الواضح أن الأميركيين لم ينجحوا في تآمرهم ضد الرأي العام، وأنه إذا ما تحسنت مواقع المقاومة ومواقفها وأداؤها السياسي أكثر فأكثر، فإن التأثير الفعّال للرأي العام سوف يتعاظم لصالحها أكثر فأكثر.

سابعاً، القضاء على المقاومة: والمقاومة المقصودة ليست تلك التي تضرب خبط عشواء، بل التي تمتلك إستراتيجية متكاملة، غير مرتدة، تربط بين الأبعاد المختلفة للحرب الدائرة، عراقياً وعربياً وإسلامياً ودولياً، وتربط تاريخياً بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالولايات المتحدة لا يضيرها استمرار الحرب وسقوط مئات القتلى كل يوم حتى من جنودها طالما الاشتباكات المسلحة لا تحول دون نهوض أعمدة مشروعها الاستعماري الضخم، العراقي/الشرق أوسطي، غير أن المقاومة تبدو مدركة تماماً لواجباتها ولأهداف عدوها، ولذلك نراها تحول بينه وبين السيطرة على النفط، ولا تمكنه من إقامة حكومة تابعة وقواعد عسكرية ثابتة، وتفضح محاولاته لافتعال حرب طائفية أو أهلية وتحاصرها وتخنقها في مهدها، كذلك هي تفسح المجال واسعاً لدول الجوار المتعاونة والمتواطئة مع العدو كي تصحح مواقفها وتعود عن انحرافها، ولا ريب أنها، بخطابها الجبهوي التوحيدي، سوف تنجح في كسب تأييد الرأي العام لها وعدم اقتصار مواقفه على شجب السياسات الأميركية فقط، وأخيراً فإن نجاح المقاومة في كل ذلك يعني عدم نجاح العدو في عزلها وتشويهها والانفراد بها والقضاء عليها.