انتهى أمس الشهر المعروف لدى المؤرخين بشهر الحروب، أي حزيران (يونيو)... الشهر السادس في التقويم الغريغوري.

ففي 28 منه سنة 1914 اغتيل الدوق فرانز فرديناند، ولي عهد الامبراطورية النمسوية، الأمر الذي أدى الى اندلاع الحرب العالمية الأولى.

وفي 22 من حزيران 1941 غزت قوات المانيا النازية الأراضي السوفياتية، مسببة حدوث أشرس المعارك في ستالينغراد وغيرها من المدن.

وفي السادس من حزيران 1944 قررت قيادة دول الحلفاء تنفيذ عملية الانزال على شاطئ النورماندي بهدف طرد النازيين من فرنسا المحتلة. ولقد عُرف هذا التاريخ بـD-Day.

وفي صباح الخامس من حزيران 1967 باشرت القوات الجوية الاسرائيلية هجومها على المطارات المصرية، معلنة بذلك بداية حرب الأيام الستة التي انتهت باحتلال سيناء والضفة الغربية والجولان.

ويتذكر العراقيون انه في اليوم السابع من حزيران 1981، قامت الطائرات الاسرائيلية بقصف «مفاعل تموز»، مدمرة بذلك حلم صدام حسين بامتلاك قنبلة ذرية.

وبعد ظهر يوم السادس من حزيران 1982، باشرت اسرائيل اجتياحها للأراضي اللبنانية عن طريق القيام بعملية انزال مزدوجة من البحر (شمال صيدا) ومن البر (جنوب بلدة المطلة).

ويستدل من مراجعة أسماء الأشهر التي اندلعت خلالها الحروب الأوروبية، ان عامل الطقس لعب دوراً كبيراً بالنسبة للعسكريين الذين يؤثرون القتال في مواسم انحسار الثلوج وجفاف الأراضي الموحلة. وربما تأثر العسكريون الاشكناز في اسرائيل بهذا العامل الطبيعي المهم. ولكن الصحيح ايضاً ان الحاجات الأمنية التوسعية ظلت هي الدافع الوحيد الذي يتحكم بتوقيت الاعتداءات وظروفها. وهذا ما يفسر تشبث اسرائيل بمكاسب حرب حزيران 1967، على اعتبار أنها تريد التنازل عن أصغر المساحات من الأراضي العربية المحتلة، مقابل الحصول على أفضل شروط السلام مع الفلسطينيين والعرب. وهذا ما أرجأ عملية تحقيق مشاريع السلام مدة تزيد على 38 سنة. بل هذا ما كشفت عنه الوثائق الجديدة التي أفرجت عنها إدارة أرشيف الدولة بعد حذف الكثير من المعلومات المتعلقة بالأمن القومي ومشاكل العنصرية وحقوق الانسان.

الوثائق التي أفرجت عنها اسرائيل تعرض صورة مجتزأة لاحداث سبقت اندلاع الحرب. ولكنها تذكر بالتحديد أثر الدور الذي قام به وزير الخارجية في حينه ابا ايبان عقب اجتماعه بالرئيس الأميركي ليندون جونسون. فقد ادعى ايبان ان جونسون أبلغه ان الأسطول السادس سيتدخل لفك الحصار عن مضائق تيران، إذا فشلت الطرق الديبلوماسية في إقناع عبد الناصر بالتراجع عن قرار الحصار. ويبدو ان ايبان حرص على نشر تلك المزاعم بهدف زعزعة ثقة الملك حسين بالموقف الأميركي. وهذا ما حدث بالفعل، لأن العاهل الأردني سارع الى اعلان تحالفه مع عبد الناصر. واستغل وزير الدفاع موشيه دايان تحالف الأردن مع مصر كي يهاجم الضفة الغربية ويحتلها. وكان ذلك بناء على الحاح ممثلي الأحزاب اليمينية الاسرائيلية المتطرفة الذين طالبوا بضم القدس الشرقية والجزء التوراتي من يهودا والسامرة.

والملفت أن إدارة الأرشيف حذفت مقاطع من محضر جلسة الحكومة يوم التاسع من نيسان (ابريل) 1967. وتنسب هذه الفقرات المحذوفة الى ممثلي حزب «المفدال» هما وزير الأديان زيرح فيرهتيغ ووزير الشؤون الاجتماعية يوسف بورغ. وكلاهما تحدث عن العامل الديموغرافي داخل اسرائيل. وعن ضرورة تشجيع الولادة والانجاب لدى اليهود فقط. ويتصور المحلل في جريدة «هآرتس» توم سيغف، ان الفقرات المحذوفة يمكن تخيلها من جواب وزير العدل يعقوب شابيرا. فقد عارض وزير الأديان فيرهنيغ لاعتقاده بأن الاقتراح سيثير عاصفة من الاتهامات العنصرية يصعب حجبها عن الرأي العام. وفي تقديره ان ممثلي «المفدال» عرضا فكرة تعقيم الشبان الفلسطينيين القاطنين داخل الأراضي المحتلة بحيث تتوقف عمليات الانجاب والتكاثر. وربما تخوف وزير العدل من ربط هذا التدبير غير الانساني بتدبير مماثل فرضه أطباء النازية على الجالية اليهودية في المانيا.

الوثائق التي أفرج عنها المسؤول عن أرشيف الحكومة جلعاد ليبنه، تضمنت محاضر جلسات ثلاثة أشهر مكتوبة على حوالي 1500 صفحة. وبين هذه الأوراق وثيقة وضعت عقب اعلان وقف اطلاق النار، تشير الى اقتراح رئيس الوزراء في حينه ليفي أشكول، نقل مئة ألف لاجئ فلسطيني الى العراق.

واعترض وزير الصحة يسرائيل برزيلي، على الفكرة بحجة انهم سكان الأرض، وأنه ليس من العدل فصلهم عنها.

ورد عليه أشكول بالقول: «ان اسرائيل استقبلت أكثر من مئة ألف يهودي عراقي طردوا من بلادهم. والاعتراض يمكن ان ينسحب على اللاجئين في الأردن ولبنان وسورية. أنا أطرح هذا الاقتراح عملاً بمبدأ تسوية تبادل السكان، خصوصاً ان العراق يملك الأرض الواسعة والمياه الغزيرة والثروة النفطية المتنامية».

تشير وثائق الأرشيف الاسرائيلي الى سقوط اقتراح أشكول بسبب تصميم الوزراء على حصر اهتمامهم بشؤون الحرب وتداعياتها. لذلك أُتفق على تأجيل موضوع اللاجئين الى الوقت المناسب. ولكنه عاد ليظهر منتصف الثمانينات مع التيار الذي تزعمه ارييل شارون، والمطالب بتسوية للاجئين على أساس تبادل السكان. ويزعم هذا التيار أن أعداد الفلسطينيين الذين هربوا من بلادهم بعد سنة 1948 لا تزيد كثيراً عن اعداد اليهود الذين (طردوا) من مصر والجزائر وليبيا والمغرب وسورية واليمن والعراق. ويطالب زعماء هذا التيار بضرورة إقرار تسوية تقوم على استعادة أملاكهم في البلدان التي نزحوا عنها، أو القبول بتعويض من أملاك الفلسطينيين في اسرائيل، على اعتبار ان التسوية قد تمت حسب مبدأ المقايضة. وهذا يعني إلغاء أهم بند في القرار 242، أي حق العودة والتعويض.

من رحم التيار الذي تزعمه شارون سابقاً ولدت جمعية اليهود العراقيين المعروفة باسم «شيمش - شالوم - فشيلوميم» والتي معناها «شمس - سلام - تعويضات». وهي جمعية، يدعي محاميها العراقي الأصل ديفيد ناوي، أنها تمثل ذرية 300 ألف يهودي عراقي طردوا من العراق في الخمسينات والستينات.

ولكن المعلومات المستقاة من مصادر «الوكالة اليهودية» تؤكد أن عمليات الترويع والتحريض على الهجرة، قام بها يهود عراقيون بتكليف من تل «أبيب». ولقد صدرت كتب موثقة عدة يعترف فيها مؤلفوها بالدور الخفي الذي مارسوه من أجل حث أبناء جاليتهم على المغادرة الى إسرائيل. وكان آخرها كتاب يهودا ثاغر الذي اعترف أنه كان أحد العملاء للحركة الصهيونية، وأنه وضع متفجرة في ساحة كنيس بغداد (1951). كما صدر الشهر الماضي في لندن كتاب بعنوان «اعلام اليهود في العراق الحديث» من تأليف مير بصري، يتحدث فيه عن أهم الشخصيات اليهودية التي اشتهرت داخل العراق وخارجه.

في السنوات الأخيرة تحولت فكرة «التبادلية» الى تيار سياسي - إعلامي تبنته كل الجاليات اليهودية التي نزحت من الدول العربية. ففي الجزائر مثلاً بلغ عدد اليهود مطلع الأربعينات حوالي 141 ألف شخص لم يبقَ منهم أكثر من خمسة آلاف بعد إعلان الاستقلال 1962. ثم تناقص هذا العدد كثيراً في عهد هواري بومدين الذي أمر بمطاردة جماعة «شهود يهوه» ووافق على تنفيذ حكم الإعدام بالاقتصادي اليهودي ديزيري الدرعي.

في التحقيقات التي أجرتها الصحافية امال شحادة من القدس المحتلة، يتبين ان الجالية اليمنية كانت من أكثر الجاليات تمسكاً بتراثها القديم. ولقد وصلت الأفواج الأولى منها بعد سنة 1950 ضمن حملة اطلق عليها اسم «أجنحة النسور» زاد عدد أفرادها على خمسين ألف شخص لم يبقَ منهم في اليمن سوى 250 عائلة.

أما بالنسبة للجالية الليبية، فإن تصريح الرئيس معمر القذافي حول مسألة التعويض، شجع رئيس «تنظيم استعادة الأملاك» مئير كحلون، على ارسال شريط سجل فيه للعقيد مشاهد الاحتفالات الشعبية. وهي احتفالات تشهد على الاحتفاظ بتقاليد يمارسها حوالي 120 ألف يهودي ليبي الاصل. ومع الشريط ارسل كحلون للقذافي ملفاًَ يحتوي على وثائق الممتلكات التي يقدرها بخمسمئة مليون دولار، إضافة الى مئة مليون أخرى كتعويض عن المنشآت العامة بينها المعابد والمقابر.

ويُستخلص من وثائق حرب حزيران (يونيو) 1967، أن ليفي أشكول كرر المطالبة بإبعاد لاجئي 1948 الى العراق، أي المطالبة التي عرضها بن غوريون على الفرنسيين قبل حرب السويس 1956. وعندما علم ياسر عرفات منتصف الثمانينات، بجدية هذا الطرح، كلف محمود عباس (أبو مازن) والدكتور عصام سرطاوي بمراجعة قضية 900 ألف يهودي يطالبون الدول العربية بالعودة أو التعويض. وتحت عنوان «الهجرة المعاكسة» وضع ابو مازن والسرطاوي ملفاً كاملاً عن هذه الادعاءات. ثم جاءت اتفاقية أوسلو بعد حرب تحرير الكويت لتهمش هذا الموضوع.

وتوقعت إسرائيل عقب سقوط نظام صدام حسين، أن يعيد الحكم الجديد للجالية اليهودية أملاكها المصادرة زائداً الحصول على تعويضات خيالية من أموال النفط. ويقال إن واشنطن ضغطت من أجل تمرير هذه المطالب، ولكنها فوجئت بمعارضة كل الفئات بمن فيها الفئة الكردية.

وبين الأسرار التي كشفتها الوثائق، حصيلة العرض الذي طرحه رئيس «الموساد» في حينه مئير عميت حول تمديد الحرب يوماً إضافياً بهدف توسيع احتلال الأراضي السورية من أجل إقامة دولة درزية مستقلة في جبل الدروز تكون بمثابة كيان فاصل بين سورية والأردن. ثم كرر شارون هذه المحاولة في لبنان سنة 1982، على اعتبار أن الاجتياح سيخلق في نظره كيانات طائفية من بينها دولة دروزستان ومارونستان. ولكن النتائج جاءت عكس كل التوقعات.

المهم في هذه الوثائق، أنها كشفت عن بعض الثوابت في الموقف الإسرائيلي، وأن قضية اللاجئين ستبقى قضية مركزية ملحة، ما دامت إسرائيل قد حصلت على الأرض باعتراف فلسطينيي أوسلو، وفشلت في حل مشكلة اللاجئين.

ويبدو أن هذه النقطة بالذات تمثل المسألة المحورية في خلافها مع «حماس»!