بعد تقديم جهاد الزين ومساهمات زياد بارود وتوفيق هندي وكريم بقرادوني وجوزف أبوخليل وشكيب قرطباوي وعلي فياض وزياد ماجد وبطرس لبكي وسجعان القزي وطلال عتريسي ورغيد الصلح وموريس نهرا وجورج قرم اليوم مساهمة انطوان نصرالله والياس الزغبي:

انتظر المسيحيون انسحاب الجيش السوري من لبنان انتظارهم السنوي لعيد أعيادهم الفصح المجيد، كونهم ظنوا ان هذا الانسحاب سيؤدي الى استعادة دورهم في لبنان عبر مشاركتهم الفعلية في الحكم، خصوصاً أنهم كانوا يرددون أن تهميشهم كما غيرهم من اللبنانيين انما كان نتيجة التدخل السوري في الحياة السياسية اللبنانية وفرض رأيه على كل شاردة فيه.

سرعان ما تبدد هذا الأمل لدى المسيحيين بعد خروج الجيش السوري من لبنان بسبب تصرفات بعض شركائهم في الوطن. مما زاد من مخاوفهم على حضورهم ومستقبلهم فيه. أقول مخاوف ولا أقول احباطاً فالمسيحي لم يعرف احباطاً يوماً وذلك لاسباب عديدة، منها ما هو ايماني يعود الى جوهر الدين المسيحي فهو دين رجاء بامتياز، ومنها ما هو تاريخي فتاريخ المسيحيين مليء بمصاعب واضطهادات استطاعوا أن يتغلبوا عليها، ومنها ما هو واقعي فكلمة احباط أطلقت في أوائل عصر تطبيق الطائف السوري لتبرير تحميل المسيحيين كل ويلات الحرب اللبنانية ومنعهم من استعادة قواهم وتالياً العمل على اخراج الجيش السوري من لبنان.
يومها، وعلى عكس ذلك لم يقع المسيحيون في الاحباط والدليل على ذلك ابتكارهم طرقاً جديدة لمقاومته وعدم التطبيع مع الواقع الذي حاول السوريون فرضه/ هذه المقاومة السلمية تنوعت بين وسائل سلبية (مقاطعة الانتخابات...) واخرى ايجابية (التظاهرات...) مع الاحتفاظ بهامش واقعي يسمح ببناء مستقبل طبيعي بين البلدين الجارين في حال أدرك النظام السوري أهمية وجود لبنان كبلد مستقل.

اذاً انتظر المسيحيون خروج السوري وعملوا في سبيله على الرغم من كل الصعاب والافكار التي حاول طرحها مؤيدو هذا الاحتلال وكان أخطرها أن الخروج السوري سيدفع بالمسلمين الى الانقضاض على المسيحيين والقضاء عليهم سواء عبر حرب أهلية او عبر حوادث متفرقة تدفع بهم الى مغادرة لبنان. يومها، كان جواب هؤلاء بسيطاً ولا يحمل في طياته أي فكر خبيث مفاده "نحن نثق بالمسلم ونعلم بأنه مقهور مثلنا وحركة التحرر سوف تطاوله. هذا الجواب، كان يخفي اقتناعاً راسخاً بأن لبنان يستطيع ان يحكم نفسه بنفسه ويدل على اقتناع المسيحيين بأن لبنان هو وطنهم النهائي.

بعد طول نضال خرج السوري، ولكن الصدمة الاولى التي مني بها المسيحيون كانت محاولة تشليحهم هذا الانتصار عبر القول بأن دورهم لم يكن محورياً في هذا الامر، بل عليهم ان يقتنعوا بأن مشاركتهم لم تكن سوى اكسسوار كان من الممكن الاستغناء عنه. هذا الوصف لم يأت فقط من بعض الاطراف السياسية المسلمة، وانما ايضاً من بعض المسيحيين الذين يتعاطون السياسة بذمية حديثة تعلموها على يد الاستخبارات السورية ويطبقونها اليوم من دون وجل او خوف...

هذا التوصيف كان أول الغيث لتتوالى الصدمات وتزداد المخاوف، فمن فرض قانون انتخابي أقل ما يقال فيه انه قانون رسم على قياس من حكم لبنان طوال العصر السوري، الى تحالف رباعي كان المسيحيون الذين انخرطوا فيه شهود زور لمرحلة كان من الممكن ان يخرج فيها اللبنانيون من فكرة الوطن المزرعة الى وطن المواطن، فالى حكومة يعرف الجميع القوة التمثيلية للمسيحيين فيها الى التعيينات وغيرها...

هذه التصرفات كان من الممكن تخطيها والتغلب عليها خصوصاً ان من قاوم 16 عاماً أمراً واقعاً يستطيع أن يقاوم سنتين او حتى اربع سنوات اضافية سلطة عرجاء تكونت في غفلة من الزمن. ولكن الخوف كبر كون الامر لم يتوقف عند هذا الحد فقد استعيد الخطاب السوري بكل أبعاده فهناك من يتهم المسيحيين بأنهم السبب الرئيسي للحرب ويحاول تحميلهم كل ويلاتها، وهناك من يكتب ويجاهر بأن على المسيحيين ان يتعودوا فكرة أنهم أصبحوا اقلية لا حساب لها.
وعند اشتداد نقمتهم على الواقع هناك من يهددهم بملف الفلسطينيين المقيمين في لبنان وضرورة منحهم الجنسية (كم يشبه هذا التهديد تحريك حلفاء سوريا تطبيق الغاء الطائفية السياسية عندما كانت تشتد الحملة على وجودها في لبنان). بالاضافة الى تحذيرهم من أن الدول التي ارتبطت تاريخياً بعلاقة معهم لم تعد ترغب بوجودهم في لبنان (كأن تاريخ وجودهم مرتبط بهذه الدولة)، وغيرها من الامثلة والطروحات التي لا مجال لذكرها. ولكن يبقى الاخطر في ذهن المسيحيين من كل ذلك منع قيام دولة حديثة ديموقراطية عادلة حلموا بها طوال فترة الوجود السوري وعملوا من أجلها، دولة تحميهم كما غيرهم وينتمون اليها من دون منّة أو خوف أو قهر.

وما يزيد من خوفهم وقرفهم الاتهامات الصبيانية التي تطلق بحقهم نتيجة خياراتهم في الانتخابات الاخيرة فاختيارهم لم يكن صدفة او رد فعل وانما جاء نتيجة ايمانهم بمشروع سياسي قائم على ثابتتين اساسيتين: الاولى الحفاظ على كرامتهم والثانية تثبيت انفتاحهم على الوطن وعلى الشريك الآخر بدل التقوقع في منطقة او ممارسة الذمية السياسية التي تتغطى بألف سبب وبألف فكرة وبألف فلسفة. هذه الثوابت في نظرهم هي المدخل الرئيسي الى دولة الحق والدولة العلمانية التي يحلم معظمهم بها ولكن ويا للاسف لم يرد احد ان يفهم هذا التحول في الفكر المسيحي وطغت النزعة المشيخية والعشائرية على ما عداها من افكار.

يردد البعض مقولة تحمل في طياتها الكثير من المعاني الجميلة مفادها "أن المسيحيين هم القيمة المضافة التي تميز لبنان وتعطيه نكهة عن محيطه" وبغض النظر عن صحة هذه المقولة فان المحافظة عليها لا تتطلب سوى قانون انتخابي عادل يعطي المسيحيين حقهم في اختيار ممثليهم وتالياً مشاركتهم فعلاً لا قولاً في بناء سلطة عادلة تقود لبنان لكي يكون وطناً.

وعندها فقط يزول الخوف ويضمحل المتقوقعون والذميون وعندها ينصرف المسيحيون الى تجديد حقيقي لمؤسساتهم الروحية والزمنية. هذه المطالب لا تدخل في باب التوصيف التبسيطي لواقع رمادي وانما هي وصف حقيقي للخروج من هذا المأزق.