يتأكّد، مرّةً بعد مرّة، كم تكسب إسرائيل بالعنف، وأنها، حينما تنهج نهجه، على ما تفعل اليوم في غزّة، إنما تبذل قصارى جهدها كي لا يكون رجوع الى السياسة. صحيحٌ أنها «تركت المجال للتحرّك الديبلوماسيّ»، على ما يقال، غير أنها فعلت هذا بعد أن مارست عقاباً جماعيّاً آخر أنزلته بالفلسطينيين من خلال بُنيتهم التحتيّة وهيئاتهم السياسيّة. فهي إذا كانت قد احتجزت وزراء «حماس» ونوّابها، فإنها أيضاً احتجزت الرئيس محمود عبّاس في المكان الذي هو فيه.

فليس صحيحاً، بالتالي، ما يردّده بعض الكتّاب والمعلّقين العرب من أن إسرائيل انهزمت في هذه المواجهة الأخيرة، أو من أنها انكشفت. ذاك أنها غير معنيّة أصلاً بصورتها في مرآة الفلسطينيين والعرب، بل في أي من المرايا. وإذ يمضي المشروع الوطني الفلسطينيّ في ترنّحه، فيما الوضع الانسانيّ للفلسطينيين يزداد بؤساً ومأسويّة موجعين، تفعل الدولة العبريّة ما تفعله وسط صمت عربيّ وتأييد دوليّ. أما الصمت فلا يخفّف منه عجز الجامعة العربيّة إذ تنوي «التحرّك»، ولا تحرّك مجموعات أصوليّة تسيء عادةً للموضوع الفلسطينيّ أكثر مما تفيده، وأما التأييد فلا تستوقفه سياسيّة الموضوع بتاتاً بل يستوقفه، وبشكل خجول جدّاً، وجهه الإنسانيّ.

وإذا ما ارتكز الصمت العربيّ على مقدّمات في عدادها أوضاع الدول التي تجمع بين توطّد يحمل على الاستغراق في الذات، وبين هشاشة تدفع السلطات الحاكمة الى الدفاع عن أمرها الواقع، فإن التأييد الدوليّ لإسرائيل لا يزال مصدره الأبرز ما حصل في 11 أيلول (سبتمبر) حيث نجحت الدولة العبريّة في ربط الانتفاضة، المندلعة يومذاك، بالارهاب.

وهو ما يعني أن الأفق العسكريّ للنضال الفلسطينيّ مسدود تماماً، فيما توازن القوى البالغ الاختلال، إذا ما جاز تعبير «توازن» أصلاً، معرّض لتعاظم الاختلال هذا، بينما الهستيريا الاسرائيليّة لا تتحمّل صاروخ كاتيوشا هنا وخطف جنديّ هناك، فتردّ بحرب شاملة لا تجد من يقف في طريقها ويردّ غوائلها.

وهذا ما يفسّر السياسات التي اتّبعها الرئيس الفلسطيني منذ ارتبط اسمه بأوسلو، ثم بالدعوة الى نزع العسكرة عن الانتفاضة، وصولاً الى «وثيقة الأسرى» التي لو تمّ الاتفاق عليها قبل التطوّرات الأخيرة لربّما وفّرت على غزّة ما تعانيه الآن.

والحال أن التمسّك بالعنف، كائناً ما كان شكله ودرجته، لا يفعل، والوضع على ما هو عليه، إلا توفير الذرائع التي تبحث عنها إسرائيل كيما تمنع الرجوع الى السياسة. فكيف وأن النهج المذكور يفتح الباب لمزاودات على سلطة «حماس» نفسها من قبل «حماس» المقيمة في الخارج، ويتيح لأنظمة عربيّة أن تمضي في التلاعُب بالفلسطينيين واستغلالهم، على النحو الذي فعله صدّام حسين وأبو نضال في محاولة اغتيال السفير شلومو أرغوف، موفّرين لتل أبيب ذريعة اجتياح لبنان؟

وأمام المأساة هذه تقضي الصراحة الإقرارَ بما يبدو الإقرار به صعباً. فالقول إن إسرائيل تفيد من اجتناب السياسة والتوجّه الى العنف صار، على رغم صحّته، أقلّ قابليّة للإقناع. ذاك أن ما أفقده صدقيّته في نظر الخارج أن الفلسطينيين يومذاك هم الذين رفضوا خطّة باراك بعدما عدّلها كلينتون، مؤثرين عليها الانتفاضة. يومها اقترعوا، واقترع معهم العرب، للعنف الذي لم تكن إسرائيل ترغب في غيره. فهي وجدت أن الاستثناء الذي أقدمت عليه عبر خطّة باراك - كلينتون يؤكّد لها قاعدتها، فتوحّد رأيها العام وتوحّد العالم من حوله وبدأ بناء الجدار الفاصل.

واليوم، إذ يعيش الفلسطينيّون محنة جديدة تدمي القلب، يُستحسن ألاّ نكرّر للمرة المليون كم أن إسرائيل مجرمة، وكم أن العرب صامتون، وكم أن العالم أصمّ. فالمطلوب ألاّ نعفّ عن استخلاصات جذريّة وتاريخيّة تتمكّن وحدها من وقف موت الفلسطينيين إن لم تنجح في إحياء قضيّتهم السياسيّة! فالمآسي لا تواجَه بتكرار الكلام العاديّ حتى لو كان وطنيّاً!