يستغرق التأقلم والتعود على المدينة الصينية في قلب العاصمة البيروفية "ليما" بعض الوقت, خاصة مع كل أولئك الصينيين المالكين للمطاعم والمحال التجارية, ممن يتحدثون اللغة الأسبانية بطلاقة مذهلة. لكنني ما أن عثرت على حساء "الونتون" والدجاج البيروفي مع مكسرات "الكاشيو" في قائمة الطعام, حتى تنفست الصعداء, وشعرت بالألفة التامة تجاه المكان. يُذكر أن آلاف الصينيين كانوا قد جيء بهم إلى البيرو كعبيد للعمل في منتصف القرن التاسع عشر, كي يحلوا محل العبيد السود الذين جرى تحريرهم وقتئذ. وعمل هؤلاء في مجالي زراعة السكر وبناء السكك الحديدية حتى تم تحريرهم لاحقاً. واليوم تتكثف هجرة وتدفق الصينيين إلى البيرو. غير أن الفارق الرئيسي بين هذه الهجرة والهجرات السابقة, أنهم يأتون إلى هنا كأصحاب عمل ومستثمرين, وليسوا عبيداً. ومن بين الوافدين مسؤولون حكوميون يأتون بحثاً عن مزارع يستحوذون عليها, فضلاً عن بحثهم عن مناجم وغابات ربما تدعم نمو بلادهم الاقتصادي المتسارع بما يحتاجه من وقود.

ومن فرط كثافة وتواتر هذا التدفق, فقد بات مألوفاً أن يسمع المرء جلبة باللغة الصينية في شوارع البيرو. كما يجري تصدير وجبات الأسماك, وفول الصويا والنفط والغاز والمعادن والصلب والأخشاب والبن، بكثافة من البيرو والبرازيل والأرجنتين والإكوادور وفنزويلا وبوليفيا وكولومبيا إلى الصين. ولا غرو أن يحق للصين –مثلما كان عليه حال كل من أوروبا وأميركا من قبل- أن تحوز على قدر من موارد أميركا اللاتينية. فها هي تنعش أسواق القارة بالفعل, وتدفع بعجلة النمو الاقتصادي فيها. ولكن يبقى الفارق بين النشاط الاقتصادي الصيني ونظيره الأوروبي الأميركي في القارة نفسها, خضوع النشاطين الأميركي والأوروبي للرقابة الصارمة على الالتزام بالمعايير البيئية. وتتسم معظم الشركات الأميركية والأوروبية العاملة في الدول النامية عموماً, بدرجة عالية من الحساسية إزاء أية مقالة أو تعليق أو رسالة إلكترونية تتهمها بتخريب البيئة أو الإضرار بها, في أي من البلدان التي تعمل فيها. وسبب هذه الحساسية, أن الشركات المعنية هذه –ومعظمها شركات عامة متعددة الجنسيات- تتلقى ردود أفعال وعقوبات قاسية من حملة أسهمها, فيما إذا لم تلتزم بمعايير الخضرة والسلامة البيئية العالية. وليس ذلك فحسب, بل إن هناك موقعاً إلكترونياً بيئياً أميركياً أوروبياً, خاصاً بمجموعة من الناشطين البيئيين والصحفيين, يداوم بانتظام على مراقبة أداء هذه الشركات وتأثير نشاطها على البيئة في الدول النامية المعنية.

على نقيض هذا, لا تلتزم الشركات الصينية بالعمل في إطار موقع إلكتروني رقابي بيئي كهذا بعد. والملاحظ أن الصين حصلت على امتيازات استثمارية عملاقة في مجالات استخراج الغاز والنفط , وفي نشاطي الزراعة والتعدين في كل من قارتي أميركا اللاتينية وإفريقيا, علماً بأنه لم تفرض عليها بعد تلك القيود القانونية الصارمة ولا الضغوط البيئية المفروضة على نظيرتها الأميركية والأوروبية. ومن هنا فلعل أكبر التحديات السياسية التي يواجهها عالم اليوم, تحويل الصين الحمراء, إلى صين خضراء, على الصعيدين الداخلي والخارجي معاً.

والملاحظ أن الصين غدت اليوم أكثر حساسية في الداخل, إزاء التكلفة الباهظة لتلويث الأنهار والهواء, والاستخدام الجائر لمواردها الطبيعية. وعلى الرغم من أن هذه الحساسية تشكل تقدماً إيجابياً يستحق الإطراء, إلا أنه من الضرورة بمكان, وضع الضمانات الكافية لعدم تصدير تخريبها للنظم البيئية إلى الدول الأجنبية الأخرى التي تنشط فيها اقتصادياً. وما لم توضع الضمانات الكافية لتفادي هذه الكارثة, فما أسهل حدوثها بالفعل. فخلال جولة له في بلدان أميركا اللاتينية في عام 2004, أعلن الرئيس الصيني "هو جنتاو" عن رغبة بلاده في استثمار نحو 100 مليار دولار في تنمية الموارد الطبيعية في بلدان القارة, خلال فترة مداها عشر سنوات. وتتضمن هذه الاستثمارات بناء السكك الحديدية ووسائل النقل اللازمة لها.

ومنذ عام 1999, ارتفعت مساهمة بلدان أميركا اللاتينية في إجمالي الواردات الصينية, إلى الضعف تقريباً, وفقاً لمعلومات نشرتها مجموعة "الأبحاث الاستخبارية". وهنا في البيرو, اشترت شركة "شاوجانج" الصينية للحديد والصلب, منجم "ماكرونا" للتعدين في عام 1991. ويعد هذا المنجم من أكبر مناجم أميركا اللاتينية على الإطلاق. ولكن المشكلة أنه يجاور منطقة طبيعية تغص بالكائنات ومظاهر التنوع الحيوي المائي فيها. وكثيراً ما اتهمت الصحف البيروفية الشركة الصينية المعنية, بطمر المواد السامة في مياه البحر وإساءة معاملة موظفيها وعامليها. ولكن أياً من تلك الانتقادات لم يلقَ له صدى أو أذناً صاغية في الصين.

غير أن من مؤشرات السلوك البيئي الإيجابي, إقدام شركة "سابت" الصينية العاملة في مجال استخراج النفط في البيرو مؤخراً, على استشارة الناشطين البيئيين المحليين في خطة عملها وتنفيذ مشروعها, في منطقة مأهولة بأهالي بيرو الأصليين. "غير أن الوقت لا يزال مبكراً جداً للحكم على مدى التزام الشركة بالمعايير البيئية العالمية"، ذلك هو تعليق السيد الفريدو فيريروس, رئيس مكتب البيرو لـ"المحافظة العالمية على البيئة" الذي شارك في الاجتماع الاستشاري المذكور. غير أن الأهالي اعترضوا مباشرة من جانبهم على أنشطة المشروع الصيني.
وإذا كان قد استغرق الغرب 20 عاماً لنمو الوعي وتوخي الحذر إزاء تأثيرات أنشطته على العالم الطبيعي الداخلي والخارجي, فقد حان الوقت الذي يتعين أن يجري فيه أوسع حوار عالمي مع الصين, من أجل تحويلها إلى عملاق اقتصادي أخضر.