أحيانا يصدمنا الواقع رغم معرفته، لأننا في كثير من الأوقات نحاول ادخال اعتقادات جديدة إلى عقلنا حول قدرة التطور بذاته على تجاوز الثقافة التراثية، ولكن على ما يبدو أننا قادرون على مسح الأيام بشكل سريع وتجاوز المعطيات التي تعشش بداخلنا منذ أيام "جرير" و "الفرزدق" فتخرج البيانات ممهورة هذه المرة بأسماء خارج نطاق المعارضة الليبرالية، ونشاهد وكأننا في زمن معارك "طاهر الجزائري" لإنشاء مدارس حديثة "علماء" قادرون على المطالبة بالعودة إلى ما قبل زمن والي دمشق "مدحت باشا".

المسألة كما تبدو "وجهات نظر" ... لكنها في النهاية أبعد من مسألة الرأي لأنها تمس كل مساحة الحداثة التي نحلم بها، وتقارب إلى حد بعيد معارك أول القرن الماضي حول مسائل التعليم وباقي القضايا الثقافية التي اعتقدنا أن رواد النهضة استطاعوا حسمها. لكننا نقف اليوم على وقائع "المدارس الشرعية" وكأنها قضية جديدة، أو كأن المساجد لا تخرج آلاف الطلاب القادرون على حفظ القرآن والحديث والوصول لمراحل الافتاء دون أن يكون رأي بهذا الشكل "المعرفي" خارج إطار المؤسسات التعليمية.

وإذا كان يبدو في الظاهر أن بعض رجال التراث يريد العودة إلى مسألة التعليم الشرعي، فإن ما يحدث أعمق من أن يكون مجرد الحفاظ على هذا الشكل لأنه موجود في الثقافة الاجتماعية أولا وفي أشكال التعليم الديني غير "المقونن" في حلقات الدين في المساجد. فالثقافة الدينية لا تحتاج إلى منابر جديدة في قادرة على الاستمرار بحكم البقاء داخل المعتقدات التي أصبحت أقوى من الدين نفسه.

المسألة هي "سلطة" المعرفة التي يعتقد البعض أن يمتلكها دون سواه ... أو امتلاك الحق بفرض القيم الخاصة بالفضيلة، واعتبار أن المجتمع بمكن أن يغرق بالفساد إذا لم يكن هناك رقيب من "جهات" معرفية تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على طريقتها.

والبيان الذي وجهه البعض إلى السيد رئيس الجمهورية يفصح بذاته عن مدى اعتقاد البعض أن المجتمع يحتاج بشكل دائم لرقيب يمارس عليه "فعل الحصانة" ولسنا مضطرين اليوم للحديث عن مسائل التعليم الشرعي، فهو النهاية قضية يمكن أن تحسم على الساحة الثقافية وليس ضمن مؤسسات الدولة التي يمكن أن نراها على الشكل الحداثي الذي يريد الحفاظ على وحدة المجتمع.

خطورة البيان الأخير هو في أشكال تعبير عن "التمثيل" الثقافي في المجتمع، وافتراض أن كافة أفراد المجتمع موافقون على سلم القيم الذي يوردها البيان .... نحن نقف هنا على مساحة من التشكيل المؤسساتي للدولة وليس لمشاكل الحصانة الاجتماعية التي يطرحها المجتمع.