باستخدامها القوة المفرطة في قطاع غزة, تؤكد إسرائيل مجدداً احتقارها للقانون الدولي وقسوتها ولامبالاتها إزاء معاناة الفلسطينيين. وعلى الرغم من استفادة إسرائيل من الدعم الحالي الذي تقدمه لها واشنطن على المدى القريب, إلا أن عواقب هذا السلوك غير المسؤول ربما تكون كارثية دون وعي الطرفين بمغبتها. ذلك أن كراهية المسلمين والعرب للدولة اليهودية وحليفتها واشنطن ربما تحتقن أكثر من ذي قبل, بكل ما يعنيه هذا من مخاطر جمة على أمن كل من الأميركيين والإسرائيليين أينما حلوا. وسيكون هناك دائماً فلسطينيون وغيرهم يبحثون عن الثأر بطريقة أو أخرى, بما فيها اللجوء للإرهاب. وفي الوقت ذاته ستتزايد الضغوط السياسية على إسرائيل, لإرغامها على وضع حد لاحتلالها للأراضي الفلسطينية, حتى من قبل الأوروبيين فاقدي الحيلة والنفوذ. وبسبب علمهما بعدم رغبة واشنطن في التحرك والفعل, فقد شرعت كل من بريطانيا وفرنسا تعملان في صمت على بلورة خطة تحددان فيها تصورهما الخاص لحل النزاع. ويقيناً إنهما لن توافقا على مشروع الحل الأحادي الجانب الذي يدور بخلد رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت, مع العلم بأنه مشروع توسعي يقوم على التهام المزيد من الأراضي الفلسطينية.
وما أن يبرح رئيس أركان الحرب الإسرائيلي "دان هولتز" حدود بلاده في أي من الرحلات والزيارات الخارجية, حتى يدرك أن اسمه مدرج بين أسماء العسكريين المطلوبين أمام القضاء الدولي, جراء ما ارتكبه من جرائم حرب. بل إن ما هو أشد خطراً على إسرائيل, إهدارها لكل رأس المال الأخلاقي الذي بنته وقامت بسببه دولتها الصهيونية, اتكاءً على واقعة جرائم الهولوكوست التي ارتكبت بحق اليهود حينها. والسبب بالطبع وحشيتها المنفلتة واعتداؤها السافر على الفلسطينيين, على نحو ما رأى العالم كله خلال الأشهر القليلة الماضية. وشملت هذه الوحشية فرض الحصار القاسي على شعب أسير أصلاً, وقصف وقتل المدنيين العزل دون رحمة, وممارسة العقاب الجماعي دون تمييز بين مذنب وبريء, مضافاً إلى كل ذلك مقاطعة تل أبيب للحكومة الفلسطينية المنتخبة ديمقراطياً. والنتيجة الطبيعية المترتبة عن هذا, ليس العداء للصهيونية فحسب, وإنما مرارة وحدَّة العداء للسامية نفسها. ومن بين كل الذي ارتكبته إسرائيل بحق الفلسطينيين مؤخراً, هناك جريمتان على وجه التحديد, ترقيان إلى مستوى إرهاب الدولة. أولاهما تدميرها في الأسبوع الماضي, محطة كهرباء قطاع غزة البالغة قيمتها 150 مليون دولار, مؤدية بذلك إلى حرمان 750 ألفاً من الفلسطينيين من خدمات الكهرباء في عز حر الصيف وهجيره. أما ثانيتهما فهي اختطاف 64 عضواً من أعضاء الجناح السياسي لحركة "حماس" في الضفة الغربية, بمن فيهم ثمانية من أعضاء مجلس الوزراء الفلسطيني و22 عضواً من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني.
وفي إشارة صريحة منه إلى حكومة "حماس" المنتخبة ديمقراطياً, قال بنيامين بن إليعازر مؤخراً: "ليست ثمة حصانة لأحد. فهذه ليست حكومة, بل منظمة للقتلة والسفاحين". والحق أن هذا الوصف الأخير ربما ينطبق على الحكومة الإسرائيلية بالذات, وينعتها أدق ما يكون النعت. والسؤال الذي أثيره هنا: لم اختار أولمرت وعمير بيريتس وزير دفاعه عديم الطائل, المضي قدماً في هذا الطريق المغلق, المؤدي إلى اللامكان؟! إجابة على هذا السؤال, هناك من قال من المراقبين إنهما ربما أرادا أن يظهرا للعالم كله براعتهما في سفك دماء العرب, بما لا يقل عن براعة من سبقهما من القادة الإسرائيليين. ولكن لاحظ المراقبون أيضاً أنهما أقل خبرة عسكرية من أي من القادة السابقين.
غير أن هذا كله ليس سوى ملمح واحد فحسب, من ملامح قصة هذا العنف الإسرائيلي المتعاظم. فلابد من وجود تفسير آخر أوسع نطاقاً للحملة الإسرائيلية الشعواء في قطاع غزة. وكما نرى فهي حملة لم تقف عند حدود العمليات الجوية والبرية والبحرية فحسب, وإنما شملت القصف المدفعي الثقيل الذي رأيناه خلال الأسابيع الأخيرة الماضية. وبالطبع فإنه لا علاقة البتة لهذه العمليات, بحادثة اختطاف عدد من المقاتلين الفلسطينيين للجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليت" في إحدى نقاط التفتيش الأسبوع الماضي, خلال عملية جرى فيها قتل جنديين إسرائيليين وتدمير عدد من المصفحات. يذكر أن مختطفي "شاليت" عرضوا إطلاق سراحه مقابل إطلاق إسرائيل لـ400 طفل و200 فلسطينية من جملة 9000 فلسطيني معتقلين في السجون الإسرائيلية. غير أن أولمرت رفض التفاوض مع الخاطفين من حيث المبدأ.
وعلى أية حال فإن الدافع الأول وراء هذا العدوان الإسرائيلي الوحشي, ذو طابع عسكري. ذلك أن تل أبيب حريصة كل الحرص على وضع حد لصواريخ "القسام" التي يطلقها المقاتلون الفلسطينيون من شمالي غزة على ضاحية سديروت الإسرائيلية, موطن عمير بيريتس وزير الدفاع. وعلى الرغم من أن هذه الصواريخ لم تصرع أياً من الإسرائيليين حتى الآن, إلا أنها تشكل مصدر قلق كبير لهم. وفي استجابة منها للصواريخ إياها, قتلت إسرائيل خلال الأشهر القليلة الماضية نحو 50 فلسطينياً –بمن فيهم الأطفال- بينما أصابت خلال عمليات قصفها الجوي والمدفعي ما يزيد على 200 آخرين منهم. يضاف إلى العامل العسكري جانب آخر يتعلق بحرص إسرائيل على انفرادها بقدرة الردع العسكري, وحرمان الطرف الفلسطيني من القدرة نفسها. والفكرة هنا أن تكون لإسرائيل وحدها قدرة ضرب العدو, دون أن يتمتع الفلسطينيون بمقومات الرد العسكري عليها. فأمن إسرائيل فوق كل مصلحة وأمن, كما تردد تل أبيب الآن وتؤازرها واشنطن خفية وعلناً.
أما الدافع الثاني وراء الهجمة الإسرائيلية الشرسة على القطاع, فهو ذو بعد سياسي يرمي إلى تقويض حكومة "حماس" بشتى السبل, بما فيها أسلوب التصفية الجسدية. والسبب إدراك إسرائيل المسبق لصرامة وعظم شروط التسوية التي ستفرضها "حماس", فيما لو دار أي تفاوض سلمي معها على الحل النهائي للنزاع. وتبدي تل أبيب عداءً مستحكماً لاتفاق (حماس- فتح) الأخير لكونه وعلى رغم اعترافه الضمني بدولة إسرائيل, إلا أنه يهدد بالإعلان عن قيام دولة فلسطينية في نطاق حدود عام 1967. والمعلوم أن إسرائيل لا تنوي مطلقاً العودة إلى تلك الحدود. ولذلك فليس من عجب أن تأتي هجماتها هذه, عقب الاتفاق المذكور مباشرة. فأعداء إسرائيل الحقيقيون, هم الفلسطينيون المعتدلون ودعاة الحوار والتفاوض!