يستطيع وزير الحرب “الإسرائيلي” الهاوي عمير بيرتس أن “يدحرج المسؤولية الى عتبة سوريا”، كما قال بالعبرية، وأن يبدو كمن يهدد ويتوعد الرئيس السوري شخصيا. وتستطيع الطائرات “الاسرائيلية” أن تقوم بعملية زعرنة و”تشبيح” فوق الشاطئ السوري، وتستطيع أن تخفي في وسائل إعلامها أن المضادات السورية تصدت لها. ولكن رغم ضرورة عدم التهاون أو الاستخفاف بهذه العصبية “الإسرائيلية”، لا تملك العين المجربة إلا أن تلاحظ ارتباكا “إسرائيليا” جديا.

في البداية انفعلوا واتهموا السلطة الفلسطينية وحملوها المسؤولية، وما لبثوا أن عادوا إلى خطتهم المرسومة بناء على أجندات أخرى معدة سلفا بينهم وبين اللوبي “الإسرائيلي” في الولايات المتحدة لاتهام سوريا. وإذا كان نهج بيرتس نابوليونيا، فإن الأكاذيب والتهم المعدة سلفا شفافة ونايلونية. ولو صح أن المسؤولين عن أسر الجندي فعلا خارج الحدود لفاوضتهم “إسرائيل” لتحرير أسيرها، فقد سبق أن فعلت ذلك بغض النظر عن تصنيف الآسر “إرهابياً”. ولكن “إسرائيل” تتمنع وتقاوم التفاوض أمام رأي عام محتار للشعب المختار لأن الأسر تم في منطقة تعتبرها منطقة نفوذها، وغرورها الاحتلالي يمنعها أن تفاوض من تستطيع في أي لحظة أن تعتقلهم وتقيد حركتهم، وهم يعيشون في منطقة سيادة بالنسبة لها. فأي باب يفتح هذا التفاوض؟

يوم الأحد 25/6 اختار رئيس الحكومة “الإسرائيلية” أولمرت في بيانه الأول حول العملية الفدائية أن يحمل السلطة الفلسطينية المسؤولية، مع تخصيص الرئيس محمود عباس بالاسم. وأعلنت وزيرة الخارجية “الإسرائيلية” تسيبي ليفني بشكل فظ “أن أبو مازن سيغدو حبيس غزة إلى أن يعود الجندي “الإسرائيلي” الأسير إلى بيته”. وفي نفس اليوم أعلنت الحكومة الأمنية المصغرة: “اننا نحمل السلطة الفلسطينية ورئيسها مسؤولية هذا الهجوم ونتائجه... ولن تكون هناك حصانة لأي شخص ولأي مجموعة”. واعتبر بيرتس ان السلطة الفلسطينية مصابة بداء الإرهاب “من قمة رأسها إلى أخمص قدميها”.

وفي خطاب ألقاه يوم الاثنين 26/6 أمام مؤتمر الوكالة اليهودية في القدس المحتلة، قال اولمرت إن “إسرائيل” تعتبر “السلطة الفلسطينية برئاسة أبو مازن وحكومة السلطة، الجهتين المسؤولتين عن العملية الإرهابية التي وقعت الأحد، وعن اختطاف الجندي “الإسرائيلي”، وعليهما واجب إعادته سالما ومعافى إلى “إسرائيل”.

أما يوم 27/6 فقد بدأ شيمون بيريز التحول بقوله “من الواضح أن أوامر الاختطاف جاءت من سوريا، حيث يقيم من يريد تدمير السلام. إن سوريا تستضيف شخصاً يريد إيقاع المزيد من الضحايا وقتل السلام... وأنا أقصد خالد مشعل الذي أصدر الأمر على ما يبدو، وهو الشخص الذي يحول دون الإفراج عن الجندي وهو يقيم في سوريا علناً”. (هكذا قرر بيريز).

وتوالت التصريحات بنفس الاتجاه، يوم 30/6 أكد “ضابط كبير في هيئة أركان الجيش”، في مقابلة مع صحيفة “معاريف”، أن “إسرائيل ليست بعيدة عن اتخاذ قرار باغتيال خالد مشعل، وداخل دمشق إذا دعت الحاجة. وأن ما يحول دون إلقاء قنبلة بوزن طن في قلب دمشق في هذه المرحلة هو العلم بأن صلية من صواريخ سكود سوف تسقط على “إسرائيل”، وربما ستقع حرب تحاول فيها سوريا شن هجوم في الجولان”. وأشار هذا الضابط المجهول الهوية إلى أن “مشعل محكوم عليه بالموت، وسيتم استغلال أية فرصة لإزاحته من دون توجيه ضربة فظة بهذا الحجم للسيادة السورية”.

واضح ان خطوطا هاتفية انشغلت مع واشنطن، وأن هذا التوجه الى المعركة الرئيسية بعد الرد الانفعالي ضد السلطة الفلسطينية يتناسق مع ما أعلنه جون بولتون في مجلس الأمن أن “سوريا مسؤولة عن الوضع الخطير في الشرق الأوسط” (الوضع في الشرق الأوسط برمته!).

نفس أسلوب الكذب البائس والبذيء الذي يلقي التهم جزافا يستمر بعد أن أدى الى كوارث في العراق وغيرها، ما زال يؤكد غياب المرجعيات القانونية وسيادة قانون الغاب والفلتان الدولي إلى درجة أن يستيقظ مواطن عربي ومثقف صباحا فيجد نفسه في حالة كافكائية على قائمة مطلوبين يقرؤها من لا نعرف لسبب نجهله ولا أحد مضطر إلى ان يجيب أو أن يأتي بأدلة، كما حصل مع الصديق معن بشور، ومع بطل فرانس كافكا في القلعة.

وطالب بولتون ب “إغلاق البؤر الارهابية المختلفة الموجودة في دمشق” مشيراً الى أن الولايات المتحدة تدعو في مرحلة أولى وبهدف إيجاد مخرج للأزمة الحالية، الى “الإفراج الفوري وغير المشروط من جانب حماس عن الجندي”. أي أن الإفراج دون مقابل هو فقط مرحلة أولى قبل خطوات أخرى سوف تتخذ على أي حال ضد حماس. أي أنه على حماس أن تشكر الولايات المتحدة لأن الأخيرة تتنازل وتقبل بالإفراج غير المشروط كخطوة أولى.

وقال بولتون ان “الولايات المتحدة تعتقد على نحو جازم أن من الشروط الاساسية لإنهاء هذه النزاع (ربما المقصود النزاع الشرق أوسطي برمته!) هو أن تنهي حكومتا سوريا وإيران دوريهما كدولتين راعيتين للارهاب وأن تدينا عمليات حماس بما فيها عملية الخطف بشكل لا لبس فيه”. بقي فقط ان يدعو هو مجلس الأمن للانعقاد، وأن يحدد موعدا أخيرا ل “إنهاء النزاع” قبل شن الهجوم عليهما. ولكنه لا يستطيع ان يفعل ذلك، وهذا ما يجعل القصة برمتها مهزلة ومن بولتون “كاريكاتير” عن سابقه. لقد انتهت السياسة الأمريكية في العراق الى مأساة، وهي تكرر نفسها هنا كمهزلة.

في يوم 2/7 أوضحت رئاسة الحكومة “الإسرائيلية” أن أولمرت قال، خلال اتصال هاتفي مع رايس يوم الأحد، ان “المفتاح لحل الأزمة موجود في دمشق لأن التعليمات والأوامر للقيام بأعمال إرهابية تأتي من هناك”. يوم 3/7 كرر اولمرت أن سوريا ورئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل يتحملان مسؤولية “الاختطاف”. وعلى عكس مصطلحات اليوم الأول أوضح أن “إسرائيل لا تزال تسمح (مشكورة!) لجهات معتدلة في السلطة الفلسطينية وفي العالم العربي بممارسة نفوذها”. وفي نفس اليوم ربط بيرتس من جديد بين سوريا وأسر الجندي: “على الجميع أن يعلم أن قيادة الإرهاب تعمل في سوريا ويترأسها خالد مشعل، وهي العنوان المركزي الذي يتحمل المسؤولية. وأنا أنصح بشار الأسد، الذي يتصرف وهو مغمض العينين، بأن عليه أن يفتح عينيه، لأن المسؤولية تتدحرج نحو عتبته”. ألم نقل لكم إننا أمام نقابي هستدروتي في زي نابليون؟

قبل العدوان الأخير على غزة عدّد رئيس شعبة المخابرات العسكرية “الإسرائيلية” في محاضرة ألقاها أمام معهد الأمن القومي في جامعة حيفا يوم 21 يونيو/ حزيران سبعة عوامل أدت إلى “تحول استراتيجي سلبي” مقارنة بالتطورات المريحة ل “اسرائيل” بين أبريل/ نيسان 2002 وأغسطس/ آب 2005. وقد رتبها حسب الأهمية: عودة إيران إلى تطوير السلاح النووي وانتخاب نجاد، ثم تعثر الخطط الأمريكية في المنطقة، وتحول حملة الديمقراطية والانتخابات إلى أداة بيد المعادين لأمريكا: حزب الله، حماس، الإخوان في مصر... في ثلاث حملات انتخابية متتالية، تمكن حزب الله وحماس من الإقناع بأن المقاومة، هي السبيل إلى انسحابات “إسرائيلية”. (ويتضمن هذا الكلام نقدا أكثر من ضمني لنموذج فك الارتباط والانسحاب من طرف واحد) وتراجع الضغط العالمي على سوريا وحزب الله بسبب الانشغال بإيران والعراق، وتحول “الجهاد العالمي”، أي ظاهرة أو ظواهر القاعدة، بشكل ملحوظ الى ساحة الصراع العربي “الإسرائيلي”، وهو أمر لم يكن قائما في السابق، وارتفاع أسعار النفط بشكل ينعش الاقتصاد الإيراني.

ولا شك أن العصبية “الإسرائيلية” في التعامل مع قطاع غزة، ومحاولة تلقينه درسا بعد عملية نوعية، والتهديدات لسوريا هي محاولة لاحتواء هذا التغيير بحيث تقلل “إسرائيل” قدر الإمكان من خطر “انتشار وهم لدى أعدائها” أن الأجندات تغيرت نتيجة لورطة العراق وتعثر الخطط في لبنان وتجرؤ إيران. التهديد “الإسرائيلي” لسوريا هو تعويض “إسرائيلي” عن النقص الذي حصل في التهديدات المتوقعة من اتجاهات أخرى، وبحث أمريكي عن أسباب جديدة لإبقاء الأجندة الأصلية في مركز الاهتمام رغم التطورات.

من منظور “إسرائيلي” وأمريكي الورطة في العراق حقيقية. ولم يحصل الانعطاف والقطع الكامل مع ما كان في لبنان، إذ لم يتحول البلد مجتمعا ونظاما إلى المعسكر الأمريكي “الإسرائيلي”. لم ينقلب النظام تماما ولم يتم نزع سلاح المقاومة. واستطاعت الأخيرة التعامل بواقعية مع المتغيرات؛ وذلك بالحفاظ على قدر كاف من شرعيتها بل تطوير تحالفات مع التيار الوطني الحر (ميشال عون). وعاد حلفاء سوريا إلى تنظيم وتأطير أنفسهم من جديد.

وفي سوريا لم يتغير النظام، ولا تغيرت ثوابته، وربما كانت الأخيرة هي الهدف الأمريكي الأكثر تحديدا. ولم تحدث لجنة التحقيق في اغتيال الحريري صدعا في النظام السوري وحلفائه في لبنان؛ ولم تأت بدليل واضح لاتهام سوريا؛ ولم ينهر الاقتصاد السوري، بل على العكس اثبت حيوية وقدرة على التحول واستقبال الاستثمارات العربية على الأقل. وتؤكد المصادر “الإسرائيلية” باستمرار أن سوريا تبرم اتفاقيات لشراء أسلحة ومعدات عسكرية جديدة، ولتطوير القائم (لا ندعي ان بمقدور سوريا تغيير موازين القوة في المنطقة إلا أن في هذا إعلاناً سورياً واضحاً لعدم الخضوع). وبات واضحا أن أي تغيير جذري داخلي في سوريا يجب أن يستعين بتدخل خارجي. والتجسيد العراقي الكارثي والجهنمي لهذا النموذج ماثل أمام الجميع.

من هنا يمكننا طرح الفرضية أنه أخذا بعين الاعتبار جمود المخطط الاستراتيجي “الإسرائيلي” وارتباك المشهد، قد يفرز خطوة “إسرائيلية” تتوهم أن تغيير المشهد الاستراتيجي في كافة المحاور (وفقا للمصالح الاستراتيجية “الإسرائيلية” طبعا). وعلى ما يبدو ان “إسرائيل” على قناعة انه إذا ترك أمر إيران للأمريكيين فإن الحلقة المتبقية الأهم في المشهد الاستراتيجي هي سوريا، فهي التي تشكل مفتاح تغيير الصورة في جميع المحاور.

تحاول “إسرائيل” في الأشهر الأخيرة خلق أجواء تحتم على حزب الله وعلى أطراف المقاومة الفلسطينية الرد على عملياتها وعلى حربها “منخفضة الوتيرة”. حاولت “إسرائيل” عن طريق اغتيال “قائد من الدرجة الثانية”، على حد تعبيرها، في الجهاد الإسلامي امتحان قدرة حزب الله. ثم فعلت كل ما بوسعها من قصف واغتيالات وجرائم بغية دفع المقاومة الفلسطينية للرد على جرائم الاحتلال في عملية استشهادية داخل “إسرائيل”. تؤدي عملية يروح ضحيتها عدد كبير من المدنيين “الإسرائيليين” إلى توجيه أصابع الاتهام بشكل مباشر الى سوريا كحاضنة لحماس وحزب الله، ومن هنا إلى مغامرة عسكرية جوية في سوريا وأعمال تخريبية تدميرية وأعمال اغتيال على أرض سوريا ذاتها. ولكن المقاومة ردت على الإرهاب “الإسرائيلي” في الضفة والقطاع بعملية نوعية ضد دبابة وتحصين عسكري وأسر جندي. وواضح من السلوك “الإسرائيلي” طيلة السنة السابقة أنها توقعت أن يحصل أسر جندي على “الجبهة الشمالية”. يعتبر كل هذا أمراً مربكاً ل “اسرائيل”، وهنالك عصبية وغضب في الرد.

كتب زئيف شيف قبل أسابيع (هآرتس 12-6) “إسرائيل تستعد لهجمات من قبل حماس، هجمات بقذائف محلية الصنع وعمليات استشهادية تنطلق من الضفة الغربية”. وكتب شيف ان هذا القرار قد اتخذ في دمشق (خالد مشعل)! وتم اعلام رئيس الوزراء الفلسطيني بذلك. ويضيف شيف “في حال وقوع هجمات على “إسرائيل”، عليها ان تقرر كيف تتعامل وترد، هل تحاول القضاء على خلايا اطلاق القذائف او العمل على نطاق واسع جدا”. لم يأت الهجوم من الضفة، ولم يوجه ضد مدنيين.

وكتب آفي سخاروف وعاموس هرئيل (هآرتس 12-6) يتهمان “حماس الخارج” الموجودة في سوريا بدفع كتائب القسام الى القيام بهجمات في العمق “الإسرائيلي” وانهاء التهدئة، ويقولان “في نهاية المطاف، كلمة الفصل لدمشق”. اي ان الصحافة هيأت بشكل موجه من مصادر عليا لأجواء توجيه أصابع الاتهام مسبقا إلى سوريا. وفي خبر آخر يكتب سخاروف: “خلافات في قيادة حماس بين حماس دمشق وقياديين في المناطق المحتلة، الخارج يريد التصعيد وفي الداخل يعارضون”. وكأننا أمام سيناريو فيلم معد سلفا يتضمن معتدلين ومتطرفين وداخلاً وخارجاً وخلافات مزعومة ورئيس عصابة ودولة راعية وهكذا.

وترى “إسرائيل” أن توجيه ضربة إلى سوريا يضعها في موقف مستحيل، إذ لا يمكن للأخيرة في الظروف الراهنة عدم الرد، اذ ان عدم رد سوري ينزع شرعية المقاومة اللبنانية ويمنح الأطراف اللبنانية الداعية لنزع سلاح المقاومة حججا؛ في حين أن رداً سورياً سيؤدي إلى اندلاع مواجهة مع “إسرائيل” بالتحول من حرب على وتيرة منخفضة تجاه حزب الله وسوريا الى حرب معلنة سوف تستغلها “إسرائيل” لتغيير المشهد الاستراتيجي. أي تدمير قدرة الردع او الهجوم ل “محور” إيران- سوريا- غزة عن طريق ضرب حزب الله وسوريا كما أنها تؤدي (من منظور “إسرائيلي” طبعا) إلى القضاء على حماس “الخارج”. وخلافا لحرب شاملة في الخليج لا يؤدي هذا الى أزمة نفط عالمية، إنما قد يؤدي الى ارتفاع في أسعار النفط تستطيع الولايات المتحدة وعملاؤها احتواءه.

هكذا يرسمون سيناريوهات متناقضة بين ضابط يريد تجنب حرب في “معاريف” وحكومة تدفع باتجاه الحرب في “هآرتس”. ولا بأس من معرفة كيف يفكرون، وإلى أين يدفع الخيال الغربي الخطير. على كل حال، هنالك تخبط “إسرائيلي” بعد الخطوة الأمريكية الأخيرة في الشأن الإيراني وبعد تعثر الخطط الأمريكية في لبنان واكتشاف شبكات تخريب “إسرائيلية” عاملة فيه. وسوف يزداد الارتباك بعد نهاية العملية على غزة، فشعب الله المختار، المحتار حاليا، يسأل منذ الآن ما الجديد فيها؟ وما الذي سوف يتغير بعدها أو بعد استعراض عضلات ضد سوريا؟ سوف تجد “إسرائيل” نفسها أمام نفس التحديات، وربما بشكل أكثر حدة.