عبد اللطيف مهنا

"أريد أن لاينام أحد ليلاً في غزة"... هذه واحدة من عديد الجمل، من ذات الوزن وعيداً و تهديداً، تلك التي ما انفك يطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود أولمرت منذ عملية "كرم أبو سالم" الفدائية النوعية... العملية الجريئة التي أربكت إسرائيل و أخرجتها عن طورها... فكان أن نفذت طائرات و دبابات و مدفعية الجنرالات من مرؤوسي شريكه في الإتلاف ووزير حربه عمير بيرتس رغبته هذه ... رغبته، أو تلك الخطة المبيتة أو المسبقة المسربة... المعدة قبل أسابيع وآن لاحقاً أوان تنفيذها بذريعة هذه العملية الفدائية، التي من شأنها أن سرعت هذا التنفيذ لا أكثر... وكان بالتالي، أن تفنن رئيس الأركان الجنرال حالوتس مع أركان جيشه، بالتعاون طبعاً مع المختلف معه حول تفاصيل عملية "أمطار الصيف" يوفال ديسكين رئيس الشاباك لتحقيق مثل هذه الرغبة الإستراتيجية لا الطارئة، و محل الإجماع في إسرائيل ... نفذوها في غزة، و يسطرونها بالدماء المراقة على مدار الساعة في بيت حانون و بيت لاهيا شمالاً، وعبسان جنوباً، بل تعدت في إستهدافاتها القطاع المحتل جواً و بحراً وأطرافاً ، لتصل إلى جنين في بقايا أشلاء الضفة المقطعة الأوصال التي لم تهوٌد بعد... وعليه، إسرائيل، في غزة، ولاحقاً في الضفة، شرعت في تطوير العقاب الجماعي الدائم المعتاد ضد الفلسطينيين إلى نوع من المذابح الجماعية المتصلة... و لعل التوصيف الأدق لهذا التطوير الدموي والخلاق وفق المآثر الصهيونية، هو ما أطلقته عليها، عصبة أولمرت و بيرتس وحالوتس و ديسكين، أو على ماخصوا غزة بالذات من هذه المذابح، وهو، "المتواصلة المتدرجة"!

... هذه المذبحة المتواصلة المتدرجة، أطلقوا عليها اسماً آخراً رديفاً أو وريثاً لأمطار صيفهم، قد يكون له علاقة ما باسم الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت أسير عملية "كرم أبو سالم " الفدائية غيرالعادية، إلا أنه قد يوحى أيضاً بأنه إنما أريد له نكهة ً توراتية ًمغرقة في رمزيتها ودمويتها، وتنسجم مع تلك الرغبة الأولمرتية، وهو "حيرف جلعاد"، أو بالعربية "سيف جلعاد"... وسيف جلعاد هذا الذي كان المسلول أبداً ضد الفلسطينيين منذ النكبة ولم يغمد، هو هذه الأيام صائلاً جائلاً فاعلاً فعائله البشعة في رقاب الأطفال قبل النساء، و الحوامل من بينهن، وهاته قبل الشيوخ، وهؤلاء جميعاً قبل الشباب و المناضلين. إذ لافرق هنا، فالعربي الجيد عندهم هو العربي الميت، وفقاً للمقولة الصهيونية التليدة...

قال الوزير زئيف بويم : "بوسع سكان بيت حانون وبيت لاهيا أن يحزموا أمتعتهم" ! ولما لم يفعلوا وصمدوا وبيوتهم تهدم على رؤوسهم، قال أولمرت، الذي بدأ يتحدث هذه الأيام عن من يحاولون تركيع إسرائيل: "إن علينا أن نعلم متى نكشر عن أنيابنا"!

... كشر أولمرت عن أنياب بيرتس وتصاعدت وتائر المذبحة بإشراف حالوتس... في أربعة وعشرين ساعة فقط لاغير، سقط خمسة وعشرون شهيداً و خمسة و سبعون جريحاً، من بين الجرحى فقط عشرون طفلاً، والحبل على الجرار... غزة، الأرض المحروقة، غدت ساحة مذابح، حوّلوها بقعة هولوكوستية بإمتياز...
إسرائيل راهناً تقتل و العالم حالياً يتفهم، وكأنما كل ما عليها هو أن تذبح ومهمة هذا العالم هي أن يغسل يديها الملطختين... لم يعد العالم يتواطىء فحسب بل هو يشاركها رياضتها الدموية ضمناً... والعرب يتوسطون بين العدوالجلاد والشقيق الضحية... ويشيحون فلا يسمعون ولايرون، أو يخيل لهم، أوهم يقنعون أنفسهم بذلك. وعندما فعلوها فاقترحوا مشروع قرار على مجلس الأمن يطالب فحسب بوقف العدوان والإفراج عن المختطفين من وزراء ونواب ورؤوساء بلديات "السلطة البلا سلطة في الوطن المحتل"، كانت على الفور المساعدة الأمريكية والفرنسية لإسرائيل الغرب المدلّله المعصومة ... إعترضت الولايات المتحدة وفرنسا على المشروع المقدم من قبل أصدقائهما العرب... قال بولتون، ما غيره، وربما قبل أن يكمل قراءة النص المعروض عليه:
"من النظرة الأولى لهذا نعتقد أنه أبعد مايكون عن إمكان طرحه للتصويت". أما زميله الفرنسي دوسابلين، فوصف المشروع بأنه "ليس متوازناً بما يكفي"!!!

عاد العرب إلى الصمت المقيم، وانصرف العالم للبحث الجماعي عن جلعاد شاليت أو عن هذا الجندي الفرنسي الإسرائيلي الذي أسر في "كرم أبو سالم "... العالم مصرّ على إعادته سالماً غانماً لدبابته التي إفتقدته... وبعض العرب يكتفي بتعيير الإسرائيليين، أو بالأحرى لوم جيشهم، لإفتقاده المعايير الأخلاقية و الإنسانية، ناسين أو متناسين أن الغزاة المحتلين، والإسرائيلييت خصوصاً، ما كان لهم يوماً معايير أخلاقية أو إنسانية... وكأنما لم يسمعوا أو يشاهدوا على شاشات التلفزة مايفعله الأمريكان بالعراقيين و الأفغان، أوهم لم يقرأوا عن ما كانوا قد فعلوه قبل هؤلاء بالفيتناميين... واليابانيين... وقبل كل هؤلاء بالهنود الحمر...

...سيف جلعاد يشهر بذريعة جلعاد، ويريدون إقناعنا بأن المذبحة المتصلة المتدرجة في غزة، وما قد يتبع في الضفة، ماهي إلا من أجل عيون جلعاد... ظنوا أننا نسينا أنهم قد سبق وأن ضحوا يوماً، أو ضحى باسمهم الآباء المؤسسون لإسرائيل بحمولة سفينة كاملة من المهاجرين اليهود المستقدمين تهريباً إلى فلسطين، ففجروها وهي جاثمة على مقربة من سواحلها، لإبتزاز الإنتداب البريطاني في حينه، الذي وضع قيوداً آنية على الهجرة، ولاستدرار عطف العالم، وبالتالي تمرير ما يتبع من سفن مستقدمة يجلبونها لتهويدها... جلعاد شاليت مجرد عنوان لمكاسرة... مكاسرة هي رمز لإختبار الإرادات بين قتلة لديهم كل وسائل التقتيل والتدمير و الإبادة، يكاد يجمع العالم على دعمهم والتغطية على جرائمهم، وبين شعب مستفرد أعزل إلا من إرادة مقاومة أسطورية لا تلين... إرادة تعدت تجلياتها في "كرم أبو سالم "مرحلة الصمود إلى حيث التحدي، ولم تعد تقيم وزناُ لإختلال ميزان القوى، أو هي تكيفت مع أقدار هذا الإختلال، بحيث يضطر العالم المتواطيء واللامتوازن أخلاقياً و إنسانياً أن يساوي منحازاً بين الضعيف الأعزل و القوي المتغطرس المفتون بعضلاته والملتاث بهوس القوة... بل هو وفقاً للمنطق الأمريكي الأوروبي، جعل المعتدي مدافعاً عن النفس و الضحية إرهابياً معتدياً!!!

وإذا كانت المذبحة هي بذريعة جلعاد وليس من أجله، و أثبتت صواريخ عسقلان، وقبلها عملية"كرم أبو سالم "، فشل مخططات "الإنفصال من طرف واحد، "ذات التوجهات التهويدية الدافع أولاً، و لدواع ديموغرافية أو أمنية ثانياً، ومعها سليلتها" خطة الإنطواء" ، وكذا الأسوار التهويدية العازلة، والأحزمة الأمنية، وحلم إيقاف تساقط الصواريخ الفلسطينية المحلية الصنع على المستعمرات المحاذية للقطاع، التي اضطرت أولمرت لزيارة مستعمرة "سديروت" سراً... فعلام إذن يشهر سيف جلعاد على غزة المستباحة بشراً وشجراً وحجراً... المستباحة إنساناً وبنى تحتية... وصولاً إلى ضرب حتى الجامعة الإسلامية؟!!

إنها مذبحة بكل ما تعنيه كلمة مذبحة وحلقة في سياق مذابح هي بدورها تأتي أيضاً في سياق حرب منهجية ومنظمة إستهدافاتها الإستراتيجية واضحة... تدمير شامل، جرف بيوت و حقول، ونسف جسور و محطات توليد كهرباء ومحطات مياه، وصولاً إلى المدارس والجامعات والمستشفيات، وسائر البنى... تضييق و تجويع... تغيير بنيوي في الخارطة الفلسطينية، إستنزاف لكل مظاهر الكيانية الفلسطينية مهما هزلت أو مسخت... وحتى استهدف الوجود، ومحاولات مستميتة لإيقاف نبض الحياة الفلسطينية... إنها حرب إبادة سياسية ووطنية شاملة بالمعنى الكامل للكلمة... وصولاً إلى هدف اللاشريك أو اللاموجود، أو نفي الآخر تماماً، بمواصلة التهويد الكامل لمكانه وزمانه ومعناه... أي، وبإختصار، أنه إنتهازإسرائيلي لفرصة كونية ملائمة و سانحة ، وفرت لهم إحتلالاً مريحاً، ومواصلة ً هادئة لتهويد مدفوع الثمن غربياً، ومسكوت عنه عربياً، ويتم تسهيله وتغطيته دولياً...

من مظاهر هذه الحرب، وتجليات تغطيتها دولياً، والسكوت عنها عربياً، على سبيل المثال لا الحصر، أن 87% من فلسطينيي الضفة و القطاع قد غدوا الآن تحت خط الفقر، وأن ثماني عائلات من بين عشرة تجوع الآن، وهذا ليس بمحض الصدفة، إذ يتشارك الإحتلال مع الحصار الدولي والإقليمي في الوصول بقرابة أربعة ملايين فلسطيني إلى هذه الحال... و الهدف هو تركيعهم... وأكثر:

عندما قررت إسرائيل إعتقال الديموقراطية الفلسطينية المقاتلة، أو على الأقل الرافضة للتنازل، أوغير المستسلمة بعد، فإختطفت 65 وزيراً ونائباً ورئيس بلدية، كرهائن للمساومة على إطلاق سراح جندي أسير، انصرف هذا العالم بقضه وقضيضه للبحث عن هذا الأسير، ولم يحرك ساكناً من أجل هؤلاء المخطوفين، أو لم يعد يتذكر الأكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني بغضهم أكمل أكثر من عشرين عاماً في الأسر... وإنحدر الموقف العربي إلى درك التوسط بين العدو الباطش و الشقيق الضحية... ويبقى السؤال:

إلى أين ستمضي هذه المذابح في غزة أو سواها من شقيقاتها أو الأشبه بالأقفاص الفلسطينية المحاصرة المحتلة، ومتى ستتوقف؟
الفلسطينيون، ونعني هنا المقاومين لا السلطة، والفدائيين لا المنظمات التي ينتمون إليها، تجاوزوا السلطة و الأشكال التنظيمية القائمة... تجاوزاً كان قد بدا من قبل شعبهم لتعقيدات إختلال موازين القوى، فإرتفع بالتالي سقفهم إرتفاع مستوى معنويات هذا الشعب إلى مافوق واقع النزف و عميق الجراح... إلى حيث معادلة: أسير بأسرى... إحتلال ومقاومة... إلى، إما فلسطين أو فلسطين... إذ إنعدمت الخيارات فهانت التضحيات...

وعليه، أمام الإسرائيليين اليوم خياران لا ثالث لهما: إما إعادة إحتلال القطاع المحتل عملياً عبر التحكم عن بعد، والتورط مرة أخرى في لجة بحره البشري، الذي حاولوا قبل عام، من بين حزمة أهداف، النجاة من دواماته عبر الإنفصال عنه من طرف واحد ،أو القبول بمعادلة أسير مقابل أسرى التي تعني هزيمة لا يتحملها العقل الإسرائيلي الملتاث بقوته و المستمرئ للتمادي الفاجر نظراً لضعف المقابل... أو لعله بقاء لامفر منه للصواريخ تتساقط على عسقلان متعدية "سديروت"، وربما أبعد من عسقلان في مستقبل الأيام الفلسطينية ، وما يعني بقاء مستعمري هذه المناطق يتظاهرون صائحيين:

"الموت للعرب... دمروا غزة" !!!

وفي حومة الخلافات بين الشاباك و العسكر، والشكوى من "العمى الإستخباراتي" و "إنعدام الخيار العسكري"، و الإرتباك والتناقض بين تصريحات السياسيين... التناقض بين تصريحات آفي ديختر وزير الأمن وروني باروون وزير الداخلية... بدأ صراخ الوعيد الإسرائيلي يخبو رويداً رويداً وتبدو عليه آثار التصدع. إنكفأ السياسيون إلى حيث التفريق بين رفض الإفراج عن معتقلين فلسطينيين ورفض التفاوض مع آسري الجندي. وعاد الجنرالات للتأكيد على أن إجتياحاتهم في غزة هي مجرد إغارة فإنسحاب لاتمركز، والهدف يقتصر على "جباية ثمن باهظ" من الفلسطينيين ... لكن، يظل السؤال هو:

هل ستظل غزة و أخواتها المحاصرات المحتلات برسم المذابح الإسرائيلية الخلاقة تسطر ملاحم الصمود والتحدي وضروب الفدائية المذهلة في صراع وجود لا حدود بإنتظار إفاقة أمتها التي تقاتل غزة وأخوانها اليوم نازفة نيابة عنها... إفاقتها من غيبوبة لا تستمرؤها قطعاً وإنما موضوعياً فرضت عليها... حتى ذلك الحين، بغض النظر عن مآل الأزمة الراهنة، أو المذبحة الدائرة، نعم لن تنام غزة... لكن، لن ينام أولمرت ومستعمريه وجنرالاته أيضاً!