د. فيصل القاسم

لا أبالغ إذا قلت إن هناك نقطتي تحول في الصراع العربي الإسرائيلي، الأولى: كانت حرب تشرين التحريرية التي أبلى فيها الجنديان السوري والمصري بلاء أكثر من حسن، وهـزّا هيبة الجيش الإسرائيلي الذي كان يتبجح بأنه لا يـُقهر. أما الثانية، ومن دون أدنى شك، فهي العمليتان النوعيتنان اللتان نفذتهما المقاومتان الفلسطينية واللبنانية بأسر جنود إسرائيليين من مواقع عسكرية محصنة.

قد تبدو العمليتان من الناحية العددية ليستا ذات أثر كبير على الجيش الإسرائيلي. لكن المضاعفات والتطورات التي نتجت عنهما تنطوي على الكثير من المؤشرات والمعطيات. واعتقد أن هناك مثلاً صينياً ينطبق على إسرائيل قبل وبعد العمليتين. يقول المثل: "لا تتمسكن كثيراً، فقد تصبح مسكيناً". بعبارة أخرى، فإن إسرائيل كانت تصور نفسها عالمياً من خلال وسائل الإعلام الصهيونية بأنها عبارة عن حمل وديع مسكين في غابة من الوحوش العربية الكاسرة. وهي ما لبثت تستعطف الغرب باعتبارها،كما وصفها إسحق شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي أثناء مؤتمر مدريد، مجرد واحة وادعة صغيرة في خضم عالم عربي هائج ومتوحش وشاسع ومترامي الأطراف.

وقد جاءت المعركة الأخيرة مع حزب الله لتظهر أن هذا الوحش الإسرائيلي الكاسر الذي كان دائماً يتمسكن ويتصنـّع المسالمة والضعف والوداعة، بينما كان يمارس أبشع أنواع الهمجية والوحشية، أصبح قاب قوسين أو أدنى، مسكيناًً فعلاً، حسب المثل الصيني. أي أنه كان له ما تظاهر به. ولعل أقوى مؤشر على تضعضع القوة الإسرائيلية وتخبطها واهتزازها وخوفها من التصدع، ربما لأول مرة بعد حرب تشرين، هو تصرفات قادتها الجنونية والمتخبطة. فقد أدلى رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود ألمرت قبل أيام بتصريح غريب يعكس حالته النفسية قال فيه إنه سيتصرف بطريقة أن "رب البيت قد جن". وشهد شاهد من أهله، فلو استمعنا إلى تصريحات الوزراء والمسؤولين العسكريين الإسرائيليين العنيفة والصارخة على مدى الأيام الماضية لاشتممنا منها رائحة القلق والخوف والجنون أكثر منها رائحة القوة والبأس والثقة. وقد تعلمنا من علماء النفس أن الشخص الذي يطلق كلاماً كبيراً قد يفعل أفعالاً صغيرة. وغالباً ما تكون العنجهية الكلامية مؤشراً على تضعضع داخلي، فيغطي من خلالها المتضعضع اهتزازه وقلقه. أما الأقوياء فعلاً، فيتكلمون قليلاً ويفعلون كثيراً.

لقد عودنا القادة الإسرائيليون على مدى تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي على الاقتصاد في التصريحات والتخفيف من العبارات النارية على مبدأ "السيف أصدق أنباء من الكتب". بعبارة أخرى، فقد كانوا يتركون أفعالهم العسكرية تعبر عن قوتهم وبأسهم، مكتفين بما قل ودل من الكلام الهادئ والخافت، أي على عكس العرب الذين كانوا دائماً يقولون كلاماً كبيراً ويفعلون أفعالاًً مضحكة، على مبدأ تمخض الجبل فولد فأراً. لكن الوضع بدأ يتغير تماماً في الآونة الأخيرة، وتحديداً بعد المعركة مع حزب الله. فقد استخدم رئيس الوزراء الإسرائيلي عبارات من قاموس العنتريات العربي، وتبعه وزير دفاعه الذي راح يهدد بطريقة جنونية:"سنحطم حزب الله، سنكسر إرادته"، إلى ما هنالك من العبارات الطنانة. لقد امتلئت التصريحات الإسرائيلية بوابل من الكلمات العنيفة جداً، وكأنهم بذلك يعوضون عن وضعهم النفسي المهتز. وهناك مثل صيني آخر ربما ينطبق على أولئك الذين يُخفون ضعفهم بالصوت العالي. يقول المثل: "الكلاب التي تنبح كثيراً قلما تعض، وإن عضت فمن شدة الخوف".

لكن لا أريد أن نفهم من المثل أعلاه أن الإسرائيليين أصبحوا لا حول ولا قوة لهم عسكرياً، بل ما زالوا مسلحين بأعتى ما توصلت إليه التكنولوجيا من أسلحة. لكن الطريقة التي يستخدمون بها تلك التكنولوجيا وتلك الأسلحة الرهيبة لا تنم عن قوة، بقدر ما تنم عن تضعضع وخوف واهتزاز نفسي، خاصة وأنهم اعترفوا بذلك ضمنياً من خلال إطلاقهم عبارة "الوهم المتبدد" على عمليتهم ضد المقاومة الفلسطينية، أي أن وهم القوة الذي كان يراودهم بدأ يتبدد فعلاً. فالذي يرد على عمليات عسكرية فلسطينية ولبنانية بالضرب خبط عشواء واستهداف المدنيين من اطفال وشيوخ ونساء وتدمير محطات المياه والكهرباء والبنى التحتية والمطارات المدنية والقنوات التلفزيونية ليس بطلاً بالمعنى العسكري، بل جبان ورعديد من الطراز الأول. واعتقد أن أطباء النفس لا بد وأن يفسروا التصرفات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في لبنان وفلسطين على أنها تصرفات جنونية مرعوبة أكثر منها استراتيجية، فالقوى العسكرية الواثقة من نفسها لا تتصرف بتلك الطريقة الوحشية الهوجاء، ولا تلجأ إلى سياسة "يا ربي تجي بعينو".

ولا أجد مثيلاً للتصرفات الإسرائيلية سوى تصرفات الجنود الأمريكيين في العراق، حيث يبدأون بإطلاق النار حتى على العصافير والحساسين الجميلة التي تطير فوق ثكناتهم، ناهيك عن فتح النار على كل من يقترب منهم حتى على بعد كيلومترات. وهذا، بالمفهوم العام، مؤشر على الخوف والقلق أكثر منه مؤشر على القوة. وكان أحد القادة العسكريين الأمريكيين في العراق قد وصف وضع جنوده هناك بأنهم أشبه بـ"قطيع من السمك في حوض مائي".

وبينما اتسمت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بالعنجهية والعنترية، جاءت تصريحات الأمين العام لحزب الله هادئة ومتزنة وواثقة، فلم يلجأ إلى العبارات الطنانة، ولم يهدد بطريقة صارخة، بل اكتفى بإشارات ذكية ولفتات مؤثرة. لا عجب أن الكثير من الإسرائيليين قالوا لوسائل الإعلام أكثر من مرة إنهم يثقون بكلام حسن نصر الله أكثر مما يثقون بكلام القادة الإسرائيليين. وهذا دليل آخر على اهتزاز صورة القيادة الإسرائيلية حتى في عيون شعبها. أي أن الآية قد انقلبت، فأصبح الجانب العربي هو الأكثر اتزاناً، بينما الجانب الإسرائيلي أكثر عنترية وتفطحلاً، طبعاً لأسباب موضوعية.

من حق السيد حسن نصر الله موضوعياً أن يبدو واثقاً وقوياً في تصريحاته وبياناته، فقد أوقع بإسرائيل من خسائر معنوية ومادية أكثر مما أوقعته الحروب العربية الإسرائيلية الكبرى. فإذا كان الشعب العربي من المحيط إلى الخليج قد صفق طويلاً وهلل وطبل وزمر للرئيس العراقي السابق صدام حسين لمجرد أنه أطلق صاروخاً يتيماً على تل أبيب، ودفع بالإسرائيليين إلى الملاجئ وارتداء الكمامات، فيجب على هذا الشعب أن يصفق ويزغرد أسابيع بلياليها للمقاومة اللبنانية التي دكت أربع عشرة منطقة إسرائيلية بعشرات الصواريخ، مما دفع بعشرات الألوف من الإسرائيليين إلى الملاجئ وهجر مدنهم وقراهم طلباً للأمن. من الذي جعل الإسرائيليين في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يقفون على رؤوس أصابعهم غير صواريخ حزب الله والقسّام الفلسطينية البسيطة؟ من الذي نجح في نقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي بعدما كانت إسرائيل تحاول خوض كل معاركها ضدنا خارج حدودها؟ كيف لو كان لدى الفلسطينيين واللبنانيين صواريخ مضادة للطائرات مثلاً؟ لكانوا قلبوا الموازين تماماً، فقد استطاعوا أن يهزوا هيبة الجيش الإسرائيلي ويحولوا حياة الإسرائيليين إلى جحيم بقذائف بسيطة، فما بالك لو كان عتادهم أكثر تقدماً بقليل؟

لقد فضح حزب الله أسطورة إسرائيل وأظهر هشاشتها الجغرافية، خاصة بعد وصول صواريخه إلى العمق الإسرائيلي في مدينة حيفا وغيرها، لا سيما وأن الإسرائيليين يتجمعون في منطقة صغيرة جداً جغرافياً، لو عرف العرب كيف يستهدفونها لجعلوا قاطنيها كالأرانب المذعورة على الدوام، كما يؤكد مهندسو المقاومة. وليته بذلك يوضح للمفتونين بالقوة الإسرائيلية كيف يمكن أن تنال من ذلك الكيان، وتعرّيه عسكرياً وسكانياً، رغم كل سطوته العسكرية الرهيبة، وتجعل قادته، بقليل من القوة والإرادة، ينطون كالقرود على شاشات التلفزيون، ناهيك عن جعل أوهامهم تتبدد كسحاب الصيف.