“نيويورك تايمز ماغازين” نشرت قبل فترة تحقيقاً عن سوريا، ركّز على نقطتين اثنتين: ضعف أو موت القومية العربية، وقوة أو انتعاش الطائفية في منطقة الهلال الخصيب. وهذا ما أثار آنذاك السؤال المثير: لماذا هذا الربط بين سقوط العروبة وصعود الطائفية؟

محللون عرب قالوا إنه لو كان الربط بريئاً ومقتصراً على التحليل العلمي والموضوعي للعوامل الداخلية لهان الأمر، إذ سيبدو انتعاش الطائفية والمذهبية نتيجة طبيعية لعوامل عدة متشابكة: تعثر الدولة واستبدادها، وتحوّلها في العديد من البلدان العربية إلى “دولة فاشلة” على الصعد السياسية والاقتصادية والايديولوجية. وهذا يقود حتماً إلى تفسخ المجتمع المدني لعناصره ما قبل الحديثة، فيصبح أعضاؤه رعايا لطائفة لا مواطنين لدولة. لكن المسألة، برأيهم، ليست على هذا النحو. هناك العوامل الخارجية التي تنشط بدأب لتدمير الرابط العربي الموحد وإحلال الرابط الطائفي المقسّم مكانه. الولايات المتحدة فعلت هذا في العراق بعد غزو ،2003 حين أطلقت القوى المذهبية من عقالها وسلّمتها السلطة على حساب القوى الحديثة والوطنية. والحصيلة هي ما نشهد حالياً من مذابح مذهبية يومية في بغداد. و”إسرائيل” كانت تنوي منذ أكثر من 60 سنة ان تفعل ذلك، وهي ترى الآن فرصة تاريخية ضخمة لإعادة رسم الخريطة العربية على أسس طائفية ومذهبية وعشائرية.

كتب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية المتقدمة “الإسرائيلي” الأمريكي: “يجب على الغرب الإدراك أن العراق وسوريا ولبنان وباقي الدول العربية مخلوقات اصطناعية، وان القومية العربية هي الخطر الحقيقي عليه. الحل يكمن في إقامة دويلات جديدة طائفية وعشائرية، ثم العمل بعد ذلك على إقامة كونفدرالية في ما بينها بقيادة الأردن”.

التقسيمات الطائفية باتت، إذاً، موضوعاً على نار حامية. إنها كطبخة تغذّى بكل أنواع الزيوت السامة، أو كطنجرة ضغط سدت عليها كل فتحات التنفس. والمعادلة هنا في غاية البساطة: دمّر الرابط العربي، تحصل على التفكك العربي (عبر حروب أهلية باردة وساخنة ومتصلة)، وتسيطر بسهولة على كل المنطقة. هذا ما تريده الآن تل أبيب وواشنطن. لكن هل هذا أيضاً ما يريده العراقيون والسوريون واللبنانيون وبقية العرب؟ أليس ثمة طوق إنقاذ ما من هذا المصير؟

لا يبدو، من أسف، أن هناك مثل هذا الطوق. لا بل أكثر: يبدو أن العرب يعرفون أن أحداً ما يدفعهم إلى الهاوية، ومع ذلك يمضون قدماً في استنفار عصبياتهم الطائفية والمذهبية والعشائرية. إنهم عميان يقودهم عميان. هذه هي الحقيقة. والبداية انطلقت من العراق، لكن الحريق سرعان ما سيتمدد إلى باقي مناطق الهلال الخصيب، تماماً كما توقّع الرئيس السوري بشار الأسد حين أشار إلى أن “التوتر الطائفي في الشرق الأوسط لا يعرف حدوداً. هناك تأثير الدومينو ليس فقط في سوريا ولكن أيضا في المنطقة بشكل عام، وتأثيره سيبدأ في المتوسط، من سوريا ولبنان، ويتجه جنوباً إلى منطقة الخليج والبحر الأحمر، ومن ثم شرقاً إلى وسط آسيا. كل هذه المجتمعات مرتبطة ببعضها البعض”.

لكن الأسد نسي أن يضيف أن المشكلة الطائفية تنفجر (أو تفجّر) لأن الحل العروبي تبخّر، وأن تقرير “نيويورك تايمز ماغازين” الرابط بين انحدار العروبة وصعود الطائفية لم يكن بريئاً أو صاعقة في سماء صافية. إنه جدول الأعمال الغربي “الإسرائيلي” الكامل للعميان العرب الذين يقودهم العميان. وهذا الجدول ينفّذ بخطى متسارعة هذه الأيام.