د. ثائر دوري

المقاومة من أجل التحرر من الاحتلال ليست مجرد عملية عسكرية يخوضها جيش ضد جيش أو مقاتل ضد مقاتل ، و إلا لكانت عملية محكوم عليها بالفشل منذ اللحظة الأولى لأن ميزان القوى العسكري مختل بشدة لصالح العدو ، الذي يملك دبابات و طائرات و أسلحة دمار شامل و تكنلوجيا قتل رهيبة لا يملك المقاوم جزءاً صغيراً منها .

لكن لحسن الحظ فإن أدوات الدمار و القتل السابقة الذكر ليست مما يعده المقاوم من نقاط القوة التي يعتمد عليها . بل هو يعتمد على عقيدته فهي القوة التي تضمن له النصر . فالمقاوم و الوسط الذي يسبح به مستعدان لدفع ثمن الحرية مهما كان غالياً . هما مستعدان لتحمل ضجيج الآلة الحربية للعدو . مستعدان للصمود أمام قصف الطائرات و المدافع . مستعدان للجوع و المبيت في العراء . و إن كل أم مستعدة أن تدفع ابنها إلى مقارعة العدو و لو كانت متأكدة أنه لن يعود.

المقاوم و الوسط المحيط به مستعدان لتحمل كل الخسائر في سبيل الحرية ، مستعدان للتضحية بالغالي و النفيس ، و هما لا يغرقان بالأوهام حول قدرة العدو على إحداث الدمار و القتل و التخريب فهما يدركان أن قدرة العدو في هذا المجال لا حدود لها . لكنهما يدركان في الوقت عينه أن صمودهم في وجه آلة القتل هذه هو الذي يحول المقاوم إلى رجل لا يقهر . هم يقولون للعدو و بكل بساطة :
 ندرك قدرتك على قتلنا و تخريب حياتنا و حياة أطفالنا . ندرك أنك تقدر على تهديم الطرق و الجسور و أن تمنع عنا كسرة الخبز و الماء و أنك تستطيع أن تحيل حياتنا جحيماً . لكن رغم كل ذلك لن نستسلم.

و لا تبلغ المجتمعات هذه المرحلة ببساطة إنما بعد معاناة و تجارب طويلة ، فحتى تبلغها يجب أن تخوض معركة مع الذات بالدرجة الأولى ، مخاوفها ، أنانيتها ، أمراضها الموروثة من عهود الخنوع و الذل الطويلة ، ميل الإنسان الغريزي للدعة و الهدوء .......الخ . و متى اجتازت الشعوب هذه المرحلة تحولت إلى كتلة من نار لا يمكن ترويضها أبداً . و هذا ما أدركه الجنرال ديغول حين كان يبحث عن خروج من الجزائر يحفظ ماء وجه فرنسا ، فقال للمتطرفين أن (( جزائر بابا قد ماتت )) ، أي أن الجزائر القديمة التي استعمرتموها لم يعد لها وجود ، الآن هناك جزائر أخرى ،جزائر ثائرة منتفضة لم تعد قابلة للتدجين .

ليس هناك اليوم في صفوف العدو الصهيو- أمريكي رجلاً يملك وعي الجنرال شارل ديغول ليدرك أن الفلسطيني و اللبناني و العراقي القديم قد ماتوا جميعاً و إلى الأبد . و أن عربياً جديداً قد ولد في ساحة المعركة . عربي لم يعد يهمه : لا الموت ، و لا القتل ، و لا الدمار ، و لا الجوع إذا كان المقابل حريته و تحرره .
و لأنه لا يظهر في أفق معسكر الأعداء رجالاً يقرأون التاريخ كديغول فإن المعركة في فلسطين و لبنان و العراق و الساحات الأخرى ستستمر بعض الوقت الإضافي حتى يقر العدو بهزيمته بشكل حاسم لا لبس فيه . عندها سيخرج بطريقة الفرار و دون حفظ ماء وجهه .
إن المقاومين و هم يغيرون الكون يتغيرون بدورهم . لقد خلعوا عنهم كل موروث الذل و القهر و إيثار الذات و بنوا ثقافة مقاومة جديدة تعيد صياغة المجتمع قلباً و قالباً . و هنا نصل إلى ملاحظة فرانز فانون الثاقبة :

(( إن موت الاستعمار هو في الوقت ذاته موت المستعمر ( بفتح الميم ) و المستعمر ( بكسر الميم ) )) . إن التحرر هو ولادة إنسان جديد في المقام الأول ، و قد ولد العربي الجديد .