عربدة لا مثيل لها، ووحشية لا تعرف أي حدود، وممارسات تتجاوز كل حقوق الانسان، وكل اتفاقيات جنيف بشأن التعامل مع المدنيين، واستخفاف وقح بالشرعية الدولية، واستهزاء بالقدرات العربية، هذه عناوين وممارسات السياسة الصهيونية في أراضي السلطة الوطنية الفلسطينية وفي الأراضي اللبنانية حيث إن شهوة الدم الصهيونية طالت مطار بيروت وكل الجسور والطرقات والمنشآت العامة، حتى إنها قطعت أوصال الجنوب وبيروت كما قطعت أوصال قطاع غزة. كل ذلك، كما تزعم الحكومة الصهيونية بوقاحة الثمل، من أجل اطلاق سراح جلعاد شاليت (جندي برتبة رقيب)، واطلاق الجنديين اللذين أسرهما حزب الله، كأنها تقول للفلسطينيين واللبنانيين والعرب: “كلكم في كفة وهؤلاء الجنود في كفة واحدة”.

لقد تفتقت العقلية الصهيونية، كعادتها، عن مجموعة من المبررات التي ساقتها وتتذرع بها لممارسة عدوانها وبطشها.

وفي الواقع، لا أحد يمكنه مناقشة تلك المبررات، لأنه لا أحد يستطيع التصدي لمنطق القوة الذي تمارسه الحكومة الصهيونية في فلسطين ولبنان أو تمارسه القوات الأمريكية في العراق، بل ان الجامعة العربية ذاتها لم تنبس ببنت شفة حتى الآن، سوى عقد اجتماع على مستوى وزراء الخارجية، أما الحكومة اللبنانية فكانت جريئة حين أعلنت أنها تدعم المقاومة اللبنانية في الدفاع عن لبنان، باستثناء بعض الأصوات التي حمّلت حزب الله المسؤولية كونه لم يتشاور مع أحد في تنفيذه لعملية أسر الجنديين، وكأن الساحة اللبنانية متكاتفة ولا تفشي السر. اذ كيف سيتشاور حزب الله مع جهات تسعى الى تجريده من أسلحته، وتسليم الجنوب طواعية لعربدة الجيش الصهيوني؟ وسط ذلك كله، تغيب حقائق كثيرة يمكن تلخيصها بما يلي:

أولاً: إن الحكومة العبرية وهي تقوم باجتياح قطاع غزة، أو تقوم باعتقالات في الضفة الغربية، وتقتل كل يوم عشرات المدنيين، تنظر الى المسألة من منظور يقول: ان هذه الحكومة هي حكومة ارهابية، وبما أن محمود عباس لم يستطع التصدي لحماس التي تتزعم الحكومة، فإن القوات الصهيونية قادرة على التصدي لها. ومن جانب آخر، فإن الدولة العبرية تستند في تعاملها مع حماس إلى أنها حركة ارهابية، وبالتالي فإن جميع وزرائها ونوابها ارهابيون، ومن انتخبهم ارهابي، ودم الارهابي مهدور ولا أسف عليه، أما بالنسبة للأطفال فهم نواة للارهاب أيضا. ولهذا، فإن عملية القتل للمدنيين، وعملية التدمير لوزارات السلطة تأتي في اطار الحرب على الارهاب أيضا.

ثانياً: بالنسبة للبنان، الأمر شبيه بقطاع غزة، فحزب الله تنظيم ارهابي من وجهة نظر “اسرائيل”، ولا يحق له خطف الجنود، ولا يجب التعامل معه على أنه قوة عسكرية شرعية، وبالتالي لا يمكن التفاوض معه. وفوق ذلك، فانه مدعوم من سوريا وايران. ولذلك، يجب محاسبة سوريا وتهديد ايران، وقد تم قصف الجسور والمطار حتى لا يتمكن الحزب من تهريب الجنديين الى ايران.

ثالثا: تريد الحكومة العبرية أن تزج بسوريا بطريقة أو بأخرى، وتستدرجها لمواجهة عسكرية، طالما فشلت الولايات المتحدة في ضربها، ولهذا فإنها اتهمتها مرتين، مرة حين قامت حماس بخطف الجندي جلعاد شاليت، فاتهمت سوريا بأنها تؤوي القيادة السياسية لحركة حماس، واتهمتها مرة ثانية حين خطف حزب الله جنديين صهيونيين، بدعوى مساندة سوريا لحماس، وليس من الغريب أن ينضم بوش بسرعة كبيرة للخطاب الصهيوني فيؤكد حق الدولة العبرية في الدفاع عن نفسها، وتحميل سوريا المسؤولية، وطالبها بأن تمارس دوراً في اطلاق الجنود المأسورين.

رابعاً: ان سياسة الدولة العبرية في قطاع غزة هي منعه من الاستقرار، ومنعه من تحقيق جزء بسيط من التنمية البشرية، ولهذا، فانها تتدخل بصورة سافرة في الشؤون الفلسطينية، وتعرض تسليح الرئيس محمود عباس، من أجل إثارة حرب أهلية، لتكون لديها ذريعة التدخل في الشؤون الفلسطينية، والادعاء بأن الفلسطينيين لا يستطيعون حكم أنفسهم، وبالتالي لا يستحقون دولة أو حتى حكماً ذاتياً.

أما على الجانب اللبناني، فإن الدولة العبرية تراهن على محاصرة حزب الله شعبيا، عن طريق تدمير البنية التحتية، وتعطيل حياة اللبنانيين، والتأثير في اقتصادهم، كما أنها لا تستطيع الاطمئنان لوجود المقاومة اللبنانية على حدودها الى أجل غير مسمى.

وفي كلتا الحالتين، اللبنانية والفلسطينية، فان الحكومة العبرية لا تتعايش مع منطق المقاومة، حماس والجهاد في فلسطين، وحزب الله في لبنان، الأمر الذي يعني سعيها لتدميرهما، تمهيدا لتحويلهما الى (الأردن ومصر) وإبرام اتفاقيات معهما، والبدء في عمليات التطبيع، إلا أن النسيج اللبناني والفلسطيني يختلف في تركيبته ومشاكله، وبالتالي لا يمكن أن يتحول الى ما هو حاصل في الدولتين المذكورتين، ولا أظن أن العلم الصهيوني سيرفرف يوما ما على سفارة للكيان الصهيوني في بيروت.

ان الحكومة الصهيونية، تنتظر ومنذ فترة مثل العمليتين اللتين وقعتا في غزة والجنوب اللبناني، ليكون لها المبرر الكافي لتدمير ما تستطيع وقتل ما أمكن في الجانبين، واعادة الساعة الى الوراء في لبنان عشرين سنة، واعادتها في فلسطين الى أكثر من عشر سنوات، يعني أن تعيد احتلال قطاع غزة، أو تتركه لفترة في أيدي المسلحين، وتشغل لبنان في اعادة التعمير، واعادة الجدل حول واقع حزب الله.

ان ما حدث في كلتا الساحتين، رغم مأساويته، وحّد الشعبين وجمع كلمتهما، ولا شك أنه بعد التهدئة (إذا هدأت الأمور) سيتغير الخطاب على الساحتين.

لقد أسر الفلسطينيون (شاليت) ففعل الصهاينة ما فعلوا، ترى، ماذا يجب على الفلسطينيين فعله، وقد أسر الصهاينة وزراء ونواب مجلس تشريعي، وخطفوا قبلها قيادات من المفترض أنها محصنة؟