من حيث الطاقة التدميرية وحجم الدمار اللاحق ألقت “إسرائيل” على لبنان قنبلة نووية عنقودية، أي منتشرة الفعل. هذه هيروشيما “إسرائيل”.

ومع ذلك، وبعد عشرة أيام من التدمير الهمحي وال “فنداليزم” واستهداف المدنيين، لا تستطيع “إسرائيل” أن تبرز إنجازاً عسكرياً واحداً ضد المقاومة اللبنانية لا بالعدة والعدد ولا بالعتاد ولا بقياداتها أو أفرادها. بوسعها فقط أن تثبت همجيتها بأحياء كاملة هدمت وتحولت الضاحية إلى “ملاعب كرة قدم” (المصطلح مأخوذ من سياسي إرهابي “إسرائيلي” هو ليبرمان) ومرافئ ومصانع وجسور وطرق وأنفاق مواصلات ومولدات كهرباء ومباني الدفاع المدني. إنهم يهاجمون بيوت الناس الآمنين ثم يقطعون عليهم طريق الهرب ويقصفون كنيسة إذا احتموا بها. صحيح أن قلة الإصابات لدى حزب الله ناجمة من أن “إسرائيل” تعاني من شحة معلومات حول المقاومة فتقصف بيوت عائلات قياداتها أو مكاتبها العلنية. ولكن هذا لا يبرر القصف المنهجي الموجه ضد المجتمع والدولة والاقتصاد في لبنان. فهذه عملية مقصودة من الإرهاب المنظم، هذا إذا كان المقصود بالإرهاب إلحاق الأذى والدمار بمجتمع واستهداف المدنيين بالعنف من أجل تغيير مواقف قيادتهم السياسية وذلك بدب الرعب والهلع (الإرهاب) في صفوف المدنيين أو بإحداث الفوضى أو غير ذلك. على كل حال هذا ما تعنيه كلمة إرهاب في وثائق الكونجرس مثلا.

ما يمنح “إسرائيل” احتكار التدمير الشامل هو ليس عقلانيتها وديمقراطيتها. وأي مقارنة بين خطاب اولمرت السياسي وخطاب نصرالله يظهر ليس فقط أن الثاني يفوق الأول عقلانية وهدوءاً والتصاقا بالحقائق، بل إن الأول حتى أكثر استخداماً للتعبيرات والتوريات الدينية. لقد ختم أولمرت خطابه الأخير أمام البرلمان بصلاة طويلة لن يجرؤ نصرالله أن يقرأ مثلها في نهاية خطابه. ما يمنحها الاحتكار هو تفوقها، وحالة العرب. لا يتحلى أولئك الذين قرروا شن الحرب الوحشية على لبنان بعبقرية أو شجاعة أو ذكاء، إنهم عموما رجال متوسطون وجبناء وانتهازيون يعيشون كالطفيليات على جسم الحياة البرلمانية والحزبية، لا مقاومة ولا كاريزما ولا بطولة في واقعهم المجبول بالدسائس اليومية. ولكن دنيا المؤسسة البيروقراطية والديمقراطية ليست دنيا الكاريزما، وهم يملكون تفوقا عسكريا ويديرون ماكينة دولة، دولة فعلا، دولة مرتاحة في هويتها التي تنتجها يومياً، ومعها مفاهيم للأمن قومي وقدرة على التعبئة قومية تحولها الى دولة شمولية في أيام الحرب. عبثا نبحث عن تفوق فردي “إسرائيلي” على كوادر المقاومة، فالتفوق كله مؤسساتي. مزعومة أم غير مزعومة، يقف للأسف مشروع دولة قومية بجوار دول قامت على أنقاض الهوية القومية. وفي المقابل حركة مقاومة لم تعرف حركات التحرر العربية درجة تنظيمها وتواضعها وجديتها، ولكنها حركة مقاومة في مجتمع طائفي مذهبي وفي دولة لبنانية محيَّدة إلا عن الطائفية، ونظام عربي قام على أنقاض الهوية القومية، ويشجع جزء منه “إسرائيل” على تنفيذ ما عجز هو عن تنفيذه أو يخجل من تنفيذه: التعامل مع المقاومة كميليشيا، ومع “الشرعية الدولية” ككلمة أخرى لانعدام الشرعية الوطنية والإنسانية عندهم.

إن ما يميز حزب الله اللبناني هو ليس ما يعجب العرب، أي شخصية البطل الفارس المنقذ الذي يبحثون عنه زعيماً للأمة، بل كونه حزباً وطنياً منظماً ينتخب قيادته، وله قيادة جماعية أوصلت نصرالله قبل أن يعرفه أحد من الصحافيين إلى القيادة، وواضح لمن يعرف هذا الحزب انه لا يعتمد على قرارات فردية، وأنه يمتلك قيادات وكوادر وقواعد اجتماعية منظمة، ولذلك فإن محاربته ليست عملية اصطياد شخص تظهر صورته على أوراق اللعب.

ليس لدى الساسة “الإسرائيليين” تفوق ثقافي أو أخلاقي على قيادة المقاومة. والأخيرة أقل تعلقاً بإيران بكثير من تعلق “إسرائيل” بالولايات المتحدة. وأكثر من ذلك، تعلق جمهور حزب الله بإيران يقل بدرجات عن تعلق الجالية اليهودية المنظمة ب “إسرائيل”.

لقد ارتكب النظام العربي الرسمي ما لا يغتفر عشية هذه الحرب، إذ استخدم مفاهيم طائفية لتقسيم الناس وتجزئة تضامناتهم تمهيداً لهذه المعركة، وذلك حتى في دول لا يوجد فيها مذاهب وتعددية مذاهب ولم تسمع مجتمعاتها بمثل هذه الحساسيات من قبل. لقد بلغت الأنانية ببعض الأنظمة حد إفساد المجتمع طائفيا حتى حيث لم يفسد بعد. لم يكن سلوكهم تجاه الحكومة الفلسطينية أفضل من سلوكهم تجاه المقاومة اللبنانية. والأولى ليست شيعية ولا إيرانية، وسلوكهم الودي التابع لأمريكا لا يعني أن الأخيرة سنية.

لسنا إذاً بصدد مسألة طائفية، بل موقف معسكر موال لأمريكا مقابل رضاها عنه. وقد ضاق هامش المناورة لدى هذا المعسكر بعد حرب العراق، ولم يعد قادرا على اتخاذ موقف والتظاهر بعكسه.

وليست الحرب في لبنان إيرانية ولا سورية، فالأولى ترغب في حوار مع أمريكا والثانية لا تدعي حتى “إسرائيل” وأمريكا أنها تريد حربا، بل هي حرب “إسرائيلية” أمريكية بتوقيتها وبأهدافها.

ولا علاقة لهذه المعركة بتحرير أسيرين، هؤلاء قضية جانبية بالنسبة ل “إسرائيل”، وربما تقبل صفقة تبادل حين يحين الوقت. فنفس المسؤولين “الإسرائيليين” الذين يتحدثون عن تصعيد لضرب المقاومة وتجريدها من سلاحها كهدف للعدوان الحالي لا يستثنون خيار التبادل لتحرير أسراهم في مرحلة لاحقة. هدف العدوان الحالي تطبيق أجندة سياسية داخلية لبنانية وإقليمية، ولا علاقة له بأسر وتحرير جنود، ولا حتى بوسيلة تحريرهم.

ولذلك ليس السؤال اختيار المقاومة هذا التوقيت. وتحميل المقاومة المسؤولية عن العدوان وعن توقيته هو من باب خلق المبررات للعدوان. فقد أجرت المقاومة عدة محاولات أسر فاشلة في الأشهر الماضية. الفرق أن هذه نجحت، وأن جنودا “إسرائيليين” قتلوا. وقد قتلوا ليس خلال عملية الأسر بل لأن دبابتهم صعدت على لغم وهي تلاحق الخاطفين بمبادرتها. السؤال هو: لماذا اختارت “إسرائيل” هذا التوقيت لفتح معركة شاملة؟

الجواب عند العرب وأمريكا الذين لم يتمكنوا من تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ،1559 وهو كل ما تبقى من الشرعية الدولية بالنسبة لأنظمة تنقصها الشرعية الوطنية والإنسانية. “إسرائيل” طبخت القرار ،1559 و”إسرائيل” تنفذه. لقد بدا القرار كأنه يأتي للدفاع عن لبنان ضد التدخل الأجنبي فتحول بقدرة قادرة إلى أداة للتدخل الأجنبي.

الفرق بين هذه الأيام وأيام القصف والغضب من “يوم الحساب” الى “عناقيد الغضب” 1993-1996 هو عدم وجود قوات سورية في لبنان، ونشوء مشروع سياسي بديل مطروح للبنان، أمريكيا، وبالتالي أيضا لبنانيا وعربيا. وقد تعثر المشروع لتغيير بنية الدولة في لبنان ولتحويله إلى حليف في النحور الأمريكي وجار ل”إسرائيل”. انطلق المشروع الجديد للبنان مع اغتيال الحريري، وتعثر في الأشهر الأخيرة، إذ لم يعد قادرا على طرح ذاته بأدواته العربية. وكانت طاولة الحوار في لبنان من مظاهر الركود والجمود اللذين انتهى إليهما. وكان واضحا ان ما يرجح القبول بطاولة الحوار هو أن البديل لها هو إطلاق النار بعد أن اتضحت المواقف وبات المؤيد لقرار 1559 لا يتظاهر بمعارضته علنيا بل يجهر بتأييده.

ولكن لم يكن خافيا على أحد أن الطاولة قد تكون مفيدة للتهدئة، ولتمرير الموسم السياحي، ولكنها ليست ولا تصلح كاستراتيجية بالنسبة لمن يريدون تطبيق المشروع الأمريكي في لبنان، كان واضحا أنهم ينتظرون تطورا ما: ضربة أمريكية لإيران أو ضربة “إسرائيلية” في لبنان. أما إيران فقد بوشر معها حوار أمريكي، ولذلك بقي خيار واحد.

على هذا تراهن “إسرائيل”. وقد منحها الرد العربي القادم من دول رئيسية عمليا ضوءا أخضر وأكد صحة رهانها وشجع قوى لبنانية على الاعتراض على المقاومة. أما الساحة اللبنانية فسوف تفاجئهم.

الهدف “الإسرائيلي” تغيير قواعد اللعبة بين “إسرائيل” ولبنان، وفي داخل لبنان أيضا. هذا هو وجه الشبه الوحيد مع حرب 1982. الفرق السلبي هو في الظروف الدولية والإقليمية، والفرق الإيجابي يكمن في قوة المقاومة، وهي لبنانية هذه المرة وليست فلسطينية، أكرر يكمن الفرق في قوة ودرجة تنظيم المقاومة، ولا بأس بأن نكرر أيضاً فرقاً آخر أن لبنان ليس مقبلا على 17 مايو/ أيار بل يعتبر تلك التجربة خلفه لا يريد أن يتذكرها. المبادرة بيد لبنان، شعباً ومقاومة. هو وحده القادر على إحباط المؤامرة. ومن يدعي أن موقف المجتمع اللبناني من المقاومة سلبي لا يذكر موقف المجتمع اللبناني من المقاومة الفلسطينية وحرب 1982. في حينه حاربت قطاعات من المجتمع اللبناني بالسلاح إلى جانب “إسرائيل”.

تتقاطر وفود دولية لقطف نتائج العدوان ولتعد لبنان بوقف إطلاق النار إذا نفذ ،1559 وأنه لم يعد هنالك مبرر لعدم التنفيذ بعد ما صور الجيش “الإسرائيلي” للمجتمع اللبناني بأدواته الإيضاحية نتائج عدم التنفيذ، وبعد ما قام بإضعاف المقاومة مباشرة بضربها، كما يتوهمون.

وفي هذا السياق ليس إيفاد لارسن إيفاداً لمبعوث دولي لتقصي حقائق وتقديم تقرير، إيفاد لارسن هو بحد ذاته موقف. فالرجل ليس فقط رجل حزب العمل “الإسرائيلي” في مسألة الصراع مع الفلسطينيين، بل هو رجل الموقف “الإسرائيلي” من المقاومة اللبنانية، إنه المشرف الدولي على تنفيذ القرار ،1559 ولديه الآن قوة شرطة تنفذ هي الجيش “الإسرائيلي”.

هذا هو الأساس. أما الزيارات المكوكية فتطمسه، تغطيه بأكوام من العناوين الترابية فيظهر لارسن بمظهر الوسيط، وهو ليس وسيطا ولا وسطا، وسوف تغرق الصورة الشاملة بالتفاصيل والتوقعات ووقف إطلاق النار والهدنة وشروطها وتطبيق 1559.

حبذا لو لم يتم استقبال لارسن حتى تحترم المؤسسة الدولية موقف لبنان والمقاومة وترسل مبعوثا دوليا لا جابي ضرائب “إسرائيليا”. فمن غير الواضح إطلاقا أن من يجب أن يدفع الثمن هو لبنان. لقد أرادت “إسرائيل” حرب ستة أيام، مجازا وحرفيا، استعارة وعددا، ولكنها لن تكون كذلك.

تحاول أمريكا دون جدوى ترشيد عملية تخريب لبنان ودكه كمدنية بالضربات “الإسرائيلية” الجوية الجبانة. تريد أمريكا أن يمس العدوان “الإسرائيلي” بالمقاومة والمجتمع الذي يحضنها دون المس بمشروعها في لبنان، وأن تبتز وتخيف حلفاء أمريكا من دون أن تحطمهم أو تبعدهم أو تدفع جمهورهم إلى أحضان المقاومة. والفرق بين “إسرائيل” وأمريكا هنا فرق تكتيكي لكنه مهم، فهو مرتبط بدرجة الضغط على حلفاء أمريكا ومتى يتحول التخويف إلى تكسير. وهي في الوقت ذاته تشجع “إسرائيل” على توسيع حلقة التهديد إلى سوريا. فأمريكا تريد من “إسرائيل” ان تساعد مشروعها في لبنان ضد المقاومة، لا ان تهدمه خلال عملية ضرب المقاومة.

و”إسرائيل” تريد من أمريكا وحلفائها وأدواتها، مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي، أن يفاوضوا الحكومة اللبنانية على وقف إطلاق نار يشمل تجريد حزب الله من سلاحه ونشر الجيش اللبناني في الجنوب، واستبدال القوة الدولية على الحدود بقوة حقيقية أطلسية، وإطلاق سراح الأسرى “الإسرائيليين”. ولكن الشرط الأول هو الأساس، وهو كاف لإرضاء “إسرائيل” بوقف إطلاق النار. والنظام السياسي الذي يخلفه العدوان من ورائه في لبنان كفيل بتنفيذ الباقي. أي أن المهم هو حسم النقاش الداخلي اللبناني بالقوة “الإسرائيلية”. وتمقت “إسرائيل” فكرة القوات الدولية التي تخشى أن تفرض عليها كمرحلة انتقالية قبل انتشار الجيش، وتفضل انتشار الجيش اللبناني فوراً لكي يكون هنالك من تحاسب. أما المقاومة فسوف تعتبر الجيش الامريكي او الفرنسي جيش احتلال يبرر المقاومة، ومع أخذ تحالف قوى لبنانية معه تنشأ حالة شبيهة بالعراق هي اقصر الطرق للتدمير الكامل في لبنان.

وإذا وافقت الحكومة اللبنانية على أية تسوية تتضمن الشروط “الإسرائيلية” دون استشارة المقاومة فسوف يبدأ استثمار سياسي داخلي لعملية انهاك المجتمع اللبناني للضغط على المقاومة لتقبل. هكذا تبدأ أيضا فتنة داخلية. هذا هو المخطط.

لم تغامر المقاومة، فهي لم تختر التوقيت. “إسرائيل” هي التي اختارت هذا التوقيت من أجل فتح معركة شاملة ضد المقاومة. فهي ترى أن تأجيل معركة حتمية مع المقاومة اللبنانية يؤدي فقط الى تقوية المقاومة وزيادة ترسانتها العسكرية كما حصل في السنوات الست الماضية. ومن ضمن عوامل اختيار “إسرائيل” لهذا التوقيت معرفتها برد فعل بعض العرب. السياق هو إذاً عكس ما يقولون تماما. والموقف العلني ذاته الذي يتهم المقاومة بالمغامرة هو من عوامل اعتبار التوقيت مواتيا “إسرائيليا”.

لقد اتخذت “إسرائيل” قرارا ان التوقيت الآن مناسب، وأن تأجيل المواجهة يفاقم الوضع ويمنح وقتا للمقاومة لتعزيز قوتها كما حصل منذ العام ،2000 إنها معركة مفصلية إذاً. صمود وصلابة المقاومة وقدرتها على الرد، ووحدة المجتمع اللبناني في رفض القرار “الإسرائيلي” للبنان، والذي سرعان ما سوف يتحول إلى خيار “إسرائيلي” في لبنان، هي ليست فقط أسلحة، بل هي ضمان لفشل العدوان.