يبدو اليوم خطابُ بعض اللبنانيين، المتناغمُ مع أبواق النظام السوريّ، وكأنما هوَ ترجيعٌ لأجواء الحرب الأهلية الما فتئت جروحها مفتوحة بعدُ؛ الحرب التي يرغبُ هذا الأخير في إضرامها من جديد، ليسَ فقط في موطن الأرز المنسحب منه عنوة ً، بل وأيضاً في فلسطين والعراق. هذه الحربُ، بنظر ذلك النظام المستبدّ، الضيّق الرؤية، من المفترض أنّ إشعالها هنا وهناك، قد يُشغل العالمُ عن موبقاته وشروره، وبالتالي يدَعَهُ في دِعَةٍ وأمان في فرعنته داخلياً وإقليمياً. واليوم أيضاً، وعلى أنغام مارشات حزب الله، يبدو النظام السوري متفائلاً بإعادة التاريخ ثلاثة عقودٍ كاملة، إلى الوراء ؛ إلى عام 1976، الشاهد على بداية حلوله العسكريّ والأمنيّ في لبنان؛ في البلد الجار، الذي كان آنذاك منهوكَ القوى بحربه الداخلية ومنتهَكَ السيادة بفعل المنظمات الفلسطينية وأشباهها. صوَرُ تلك الحرب الهمجية، التي حلّت بموطن الحضارة والتمدّن، ما زالت مترسّخة في الذاكرة؛ صور التدمير والخراب والضحايا المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء ورجال عزّل، والنازحين الفارين بأرواحهم إلى حِمى الحدود السوريّة: ما أشبَهَ، إذاً، اليوم بالبارحة.

يُعيد الآن بعضُ اللبنانيين، من اللائذين بخيمة ملالي طهران وبعثيي سورية، خطابَ السبعينات، الخشبيّ، المُترفل بالشعارات الطنانة؛ عن التصدي للرجعية والإنعزالية والطائفية والتبعية. وإذ أجازَ هؤلاءُ لأنفسهم، في هذا الزمن الجهاديّ، إتهام الخصوم المفترضين بكل تلك النعوت العائدة لزمن الحرب الأهلية؛ فربما يتوجّب على المرء تنويرَ عقولهم المظلمة بحقيقةٍ ساطعة: وهيَ أنّ "حزب الله"، الإرهابيّ، وحليفته الشيعية "أمل"، البالغة سنّ اليأس، هما التنظيمان المتفرّدان في موطن الأرز رجعية ً وطائفيّة ً وإنعزالاً وتبعيّة. إنّ سياسة الوصيّ السوريّ، البعثيّ، في حلّ جميع الميليشيات اللبنانية، والمستثني منها هذيْن التنظيميْن، الشيعيين، ناهيك عن تسليحهما حتى أسنانهما بترسانةٍ هائلة؛ تلك السياسة، تحيلنا بالضرورة إلى طبيعة ذلك الوصيّ، الطائفيّة المُزمنة، والذي وجدَ في تلك التنظيمات اللبنانية الهويّة، والإيرانيّة الهوى، إمتداداً عضوياً لتواجده العسكريّ والأمنيّ في البلد الجار، المُستباح السيادة.

إنّ يافطة " سلاح المقاومة "، التي تذرّع بها آنئذٍ نظامُ الوصاية، البعثيّ، لجعل حلفائه من الشيعة، الطائفيين، كما لو أنهم دولة الأمر الواقع داخل الدولة اللبنانية، الهشة، لا يمكن إلا أن تذكرنا بالمسبب الرئيس للحرب الأهلية، التي إشتعلت جذوتها في منتصف سبعينات القرن الماضي. فالمعروف لكل مطلع، أنّ الأسد الأب وإثر حوادث عام 1969 بين الجيش اللبناني والفدائيين، قد حشدَ جيشه على حدود البلد الجار، ثم تمكن لاحقاً من أن يفرض عليه ما صار يُعرف بـ " إتفاق القاهرة "، الذي أطلق يدَ منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح بالتالي دولة داخل الدولة. إنّ أجلى برهان على طائفيّة النظام السوريّ، فيما يتعلق بهذه المسألة، هوَ سعيه الدائب لإضعاف القوى العلمانية، المقاومِة في الجنوب اللبناني، وصولاً إلى إفراغه منها نهائياً؛ كما في حالة الشيوعيين، الذين تعرضت كوادرهم إلى حملة تصفية دمويّة، منظمة، طالتْ فيما طالت المفكريْن البارزيْن مهدي عامل وحسين مروة. وعلى هذا، فإذا كان نظام الوصاية البعثيّ، الغاشم، قد حَرّمَ على الشيعة، العلمانيين، تملك سلاح المقاومة وجعَلَهُ بمثابة " الحَرَم المقدّس "، المنذور للطائفيين من حزب الله وأضرابه؛ فالأحرى به، بطبيعة الحال، ألا يسمح للدولة اللبنانية، المفترض تمثيلها لمكونات الشعب كافة، من نشر جيشها على حدود الجنوب أو حتى إشراكها بقرار مصيريّ، غاية في الخطورة، كقرار الحرب والسلم.

في ذكرى مرور ثلاثين عاماً على التدخل السوري في لبنان، يتذكّر السيّد نصر الله، على حين فجأة، أنّ ثمة أسيراً إسمه، سمير القنطار، ما زال معتقلاً لدى العدو الصهيوني؛ أسيرٌ واحد لا غير، سيجعلَ موطنَ الأرز بأكمله قرباناً له. سيّد المقاومة هذا، الذي صارَ الآن شبيهاً بفراعنة القرن العشرين، العروبيين، بشعبيّته الكاسحة وخطاباته النارية، المتلفزة؛ لا شأن له وهوَ في خضم المعركة، بالمعتقلين اللبنانيين في سجون حلفائه السوريين. فهم في ضيافة عربيّة، شقيقة، أصيلة، سواءً بسواء أكانوا في الجحور أو في القبور. في هذه الذكرى، المشؤومة، لا بدّ أن يتذكرَ اللبنانيون، بدورهم، أنّ إنسحاب جيش السلطة السورية من بلدهم، غيرَ منجز بعدُ، ما فتئتْ أدواتها وإمتداداتها تجول وتصول على ارضهم. هذا الإنسحاب، المُتحقق بفعل وحدتهم وإرادتهم وإصرارهم وتضحيتهم، سيكون مستحيل الإنجاز، ما بقيَتْ في الحُكم تلكَ السلطة الديكتاتورية، الطائفية، التي لا ترى في البلد الجار سوى المثال الأخطر؛ بنظامه الدستوري التمثيلي وبإتفاق مكوناته الطائفية، جميعاً؛ ناهيك عما كان بالنسبة لها كمزرعةٍ، مغتصبة، للإبتزاز وغسيل الأموال وتجارة المخدرات.