لا يعفي السلوك الوحشي الذي أبدته اسرائيل في آخر حروبها (حتى الآن)، من مراجعة السلوك الآخر الذي استدعى هذه الوحشيّة ومهّد لها الطريق أو قدّم الذرائع. وهو أمر، والحق يقال، يعود الى زمن أسبق بكثير من خطف الجنديين، أو حتى من القرار 1559 والنزاع في صدده، وإن شكّلت المسألتان المذكورتان صاعق التفجير المباشر.
والواقع اننا نعثر في السلوك النضاليّ، كما يعبّر عنه "حزب الله" حاليّاً، على المصادر البعيدة للأزمة الإسرائيليّة- اللبنانيّة، والتي هي، في وجهها الآخر، أزمة الوطنيّة اللبنانيّة نفسها، وأزمة عجزها عن توليد إجماعات مُلزمة لعناصرها المكوّنة. فحين قامت اسرائيل في 15 مايو 1948، استطاع لبنان الرسميّ أن يتجنّب الآثار الضارّة لذاك الحدث، أو الكثير منها، عبر اعتماده صيغةً مزدوجةً تقوم، من جهة، على مقاطعة الدولة العبريّة سياسةً واعترافاً ديبلوماسيّاً وتعاملاً اقتصاديّاً وثقافيّاً، ومن جهة أخرى، على اتفاقية الهدنة التي وُقّعت عام 1949 في جزيرة رودوس، ووفّرت ترساً تحتمي وراءه الدولة اللبنانيّة الناشئة من خطر العسكريّة الإسرائيليّة.
صحيح أن قيام الدولة العبريّة ألقى بعشرات آلاف الضحايا الفلسطينيين لاجئين في لبنان، كما حصل في الأردن وسوريا، وهو ما رتّب نتائج سلبيّة، بطبيعة الحال. لكن لبنان، بمعادلة المقاطعة والهدنة، استطاع أن يحمي حدوده الدوليّة وأن يبني تجربة نموذجيّة في منطقة الشرق الأوسط على صعيدي الاستقرار والتقدّم في آن معاً. وهي تجربة لم يَشبْها إلا توتّر الأشهر الستة عام 1958، إبّان اصطدام المشروع الناصريّ بالأحلاف الغربيّة، والذي لم يكلّف حينذاك إلاّ عشرات القتلى.
لكن الأزمة الكبرى بدأت تتأسّس أواخر الستينيات، لا سيّما مع هزيمة يونيو 1967 التي نزلت بمصر وسوريّا والأردن في أيّام ستة. كذلك، وبالمعنى نفسه، بدأت تتأسّس ثقافتها التي باتت، في وقت لاحق، تُعرف بـ"الممانعة".
فقد تضافرت آنذاك عوامل أربعة جعلت مقاومة إسرائيل انطلاقاً من لبنان، أو ما عُرف بالكفاح الفلسطينيّ المسلّح، حالة الاشتباك الأبرز بين العرب والدولة العبريّة.
فأوّلاً، هناك كتلة فلسطينيّة كبرى أنتجها اللجوء في عام 1948 ثم تضخّمت إثر هزيمة 1967 واحتلال الضفّة الغربيّة. وكان طبيعيّاً أن تستقبل الكتلة هذه نشأة حركة "فتح" والمنظمات الفلسطينيّة الأخرى بكثير من الحماسة التي فاقمها سوء معاملتها في لبنان.
وثانياً، هناك نزاع طائفيّ مديد وعميق بين اللبنانيّين شكّل الأساس الداخليّ الذي نما عليه السلاح والعسكرة، بالاستفادة من ضعف الإجماعات المتحقّقة بين الطوائف.
وثالثاً، عمل الوضع العربيّ الرسميّ، ممثّلاً بمصر الناصرية عام 1969، على فرض "اتفاق القاهرة" على لبنان، بحيث وُضعت أجزاء من البلد، للمرّة الأولى، خارج سيطرة الدولة اللبنانيّة وفي عهدة المقاومة الفلسطينيّة.
ورابعا،ً وهو الأهمّ، آثرت سوريا الردّ على هزيمتها الحزيرانية وخسارتها هضبة الجولان بالمساعدة في نقل وتجميع وتسليح الفلسطينيّين في لبنان، كيما تستخدم البلد الأخير، الأصغر والأضعف، منصّةً في حربها لاستعادة الجولان.
فعندما أدّى النزاع الأهليّ في الأردن عامي 1970 و1971 إلى طرد المسلّحين الفلسطينيّين منه، صارت الحدود اللبنانيّة- الفلسطينية الرقعة التي تحضن الاشتباك الوحيد في العالم العربيّ.
غير أن هذه الحصيلة كانت ظالمة جداً بحقّ بلد صغير نيط به وحده تحرير فلسطين. وأبعد من هذا أن الفلسفة التي قام عليها لبنان كبلد يضم 17 طائفة دينيّة ومذهبيّة تعرّضت، هي الأخرى، لإخلال ضخم. ذالك أن تركيبة تعاقديّة كهذه لا تحتمل إطلاقاً تفرّد جماعة من جماعاتها بفرض وجهة نظرها على الجماعات الأخرى، بغض النظر عن درجة "الحقّ" التي تنطوي عليها وجهة نظر الأقليّة تلك. فكيف وأن هذا الرأي يعادل مطالبة الآخرين بالحياة والموت في أمر لم يُستشاروا فيه ولا يوافقون عليه.
والحال أن الطبيعة التسوويّة للبنان كانت تُملي شكلاً آخر في دعم الحقّ الفلسطينيّ وفي التضامن مع الشأن العربيّ الإجماليّ. فلبنان الذي لا يملك جيشاً قوياً ولا المؤهّلات التي يتطلّبها اقتصاد الحرب، كان دائماً مدافعاً في المحافل الدوليّة، مستفيداً من تكوينه المتعدّد والمنفتح تقليديّاً على الغرب، كما كان منبراً ثقافيّاً وفكريّاً وإعلاميّاً للمسألة الفلسطينيّة. وهو، فوق هذا، كان بفعل تعايش طوائفه ومذاهبه، وإقامته نظاماً برلمانيّاً وتعدديّاً، بمثابة النموذج الذي أحسّ العرب بفقدانه في ما بعد. ويكفي، لإدراك أهميّة ذالك النموذج، أن نتذكّر الأجواء التي سادت ولا تزال تسود الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة، منذ 11 سبتمبر 2001، لجهة التركيز على أن العرب والمسلمين لا يقبلون الحياة مع "الآخر" ولا يستطيعون بناء نمط ديموقراطيّ والعيش في ظلّه.
على أيّة حال، فقد تحطّم هذا البناء العقلانيّ الذي رمز إليه لبنان القديم، فيما عجز اللبنانيّون والفلسطينيّون عن وقف المأساة والفوضى المتماديتين بحيث كان الاجتياح الإسرائيلي بالطريقة الرهيبة التي تمّ بها عام 1982. وقد كان ما كان من كوارث بسبب الاجتياح وما رافقه وتلاه من حروب الجبل والضاحية وبيروت وطرابلس والمخيّمات، فضلاً عن انهيار اقتصاديّ مريع وغير مسبوق.
غير أن القانون الاستبداديّ القائم على جرّ البلد إلى الحرب بمعزل عن إرادة الأكثريّة من أبنائه، بقي ساري المفعول، وبقيت طاقته التدميريّة جاهزة مستنفرة لا تضعف ولا تكلّ. فنتيجةً لغزو 1982، نشأ الاحتلال الذي كان يمكن تجنّبه أصلاً، ثم نشأت المقاومة لمواجهة احتلال شرس كنّا في غنى عن التعرّض له ومعاناته. فحينما حصل التحرير والانسحاب الإسرائيليّ عام 2000، استمرّت المقاومة التي رفضت حلّ نفسها كما رفضت تسليم بندقيّتها للدولة اللبنانيّة بذرائع شتى. وفي هذا، تمسك "حزب الله" بتفسير اتفاق الطائف الذي يميّز بين سلاح المقاومة وسلاح الميليشيات، علماً بأن الاتفاق قد وُضع فيما الاحتلال الإسرائيليّ جاثم على الجنوب والبقاع الغربيّ.
لكنْ باغتيال رفيق الحريري، توسّعت بين اللبنانيّين رقعة القناعة القائلة بأن طرفاً ما يريد تطويع بلدهم كلّه وإلحاقه بمصالح بلدان أخرى، وبأن هذا التطويع بذريعة المقاومة والصمود لن يعفّ عن ارتكاب أيّ عمل كان. لكنْ لئن أمكن إخراج الجيش السوريّ من لبنان، فقد تعاظم النفوذ الايرانيّ من خلال "حزب الله" مستفيداً من ارتفاع عائدات النفط المستثمرة في تعزيز نفوذ طهران ونشره. وعلى النحو هذا، وباسم المقاومة اللبنانيّة، أمكن إحكام القبضة مجدّداً على لبنان وإدراجه عنصرَ ضغط في التفاوض الساخن وغير المباشر بين الإيرانيين والولايات المتّحدة.
وبدورها، فإن القوى السياسيّة المناوئة لـ"حزب الله"، والتي لا توافقه نظرته إلى الأمور العامّة، بذلت أكبر الجهود الديبلوماسيّة والإقناعيّة لحمل الدول الغربيّة على تأجيل تنفيذ القرار 1559 (القاضي بنزع سلاح الحزب)، وترك أمره لتوافق اللبنانيين في ما بينهم، وذلك حرصاً على السلام الأهليّ.
وها هي المأساة الراهنة، الأخيرة(؟)، تردّنا إلى السؤال الأوّل والأصليّ: هل يريد اللبنانيون بناء بلد يدعم، في حدود قدرته، وبما لا يخلّ بإجماع جماعاته، قضايا المنطقة المُحقّة، أم أنهم يريدون تدمير بلدهم بذريعة هذه القضايا؟
وهو سؤال يغدو أكثر إلحاحاً حين نرى كيف ينفضّ العالم، عرباً وغرباً على السواء، فضلاً عن أكثريّة اللبنانيّين أنفسهم، عن مقاومة ثبت بالملموس أنها إنّما تقوّض بلدها أكثر بكثير مما توفّر له الحماية!
ونحن لا نكتشف البارود إذا قلنا إن الفرصة الوحيدة المتبقّية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من بين فكّي الوحش الاسرائيليّ تكمن بالعودة الى مظلّة الدولة، وتالياً إلى الايديولوجيا العقلانيّة التي حملها لبنان التقليديّ الذي يمتنع عن دخول مغامرات تفوق طاقته بكثير، فيما تحطّم ما تبقّى من إجماعات بنيه.