لقد استرعى انتباهي خبر صغير نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية خلال اليومين الماضيين، جاء فيه أن شركة الهواتف الإسرائيلية "بيزيك" ماضية في توصيل خطوط شبكة الإنترنت فائقة السرعة في مستوطناتها الشمالية التي تستهدفها صواريخ "حزب الله"، حتى يتسنى لسكان المستوطنات هذه، الإبحار في الشبكة الدولية بأقصى سرعة ممكنة، أثناء انتظارهم لقنابل "حزب الله" التي تنهمر عليهم. وقد قرأت هذا الخبر من ناحيتي بطريقتين مختلفتين، أولاهما أن فيه رمزية قوية على عزم إسرائيل وقدرتها على التكيف مع كافة أشكال الحرب وأنواعها. أما في ثانيتهما فقد استشفيت تعبيراً مستبطناً لما شعرت بأنه بدا يخالج الكثيرين في إسرائيل: إن هذه حرب غير عادية وإنه ليس متوقعاً لها أن تضع أوزارها قريباً. ففي وقت أبدت فيه معظم الدول العربية استعداداً للتعايش مع إسرائيل وأصبحت القضية الوحيدة مثار الخلاف هي ترسيم الحدود، إذا بميليشيات "حزب الله" الشيعية المدعومة من قبل إيران تكشر عن ترسانتها الصاروخية المؤلفة من 12 ألف قطعة، وتتمسك بقولها إن مسألة ترسيم الحدود ليست أمراً وارداً البتة، وإن الواجب هو إزالة إسرائيل ومحوها من الوجود.
ولعل ذلك هو ما أثار عندي شعوراً لدى تحدثي إلى أصدقائي الإسرائيليين بما يقارب التأييد الكامل للتدابير التي تتخذها حكومتهم، إلى جانب شعورهم بالارتياح إزاء وضوح الأهداف العسكرية وراء هذه المواجهات، استناداً الى حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. بيد أن كل هذا لا يخفي حقيقة تصاعد القلق الشعبي العام والشعور الدفين بأن بلادهم تواجه عدواً عقد العزم على تحويل النزاع الحالي من نزاع حدودي إلى حرب دينية مقدسة. والملاحظ أن "حزب الله" ينوي فعل ذلك على نحو لا يهدد الأسس التي قامت عليها إسرائيل فحسب، وإنما من شأنه تهديد وزعزعة الاستقرار الأمني على الصعيد الدولي.
والسؤال الذي لا بد من إثارته: كيف تسنى لهذا الحزب الممثل في مجلس وزراء الحكومة اللبنانية الحالية، أن يحول نفسه إلى "دولة داخل الدولة"، وكيف له أن يواصل إطلاق هجماته وصواريخه الخاصة، التي عرضت الشعب اللبناني كله لمخاطر الرد العسكري الإسرائيلي؟ ليس ذلك فحسب، بل انتهك هذا الحزب لهجماته غير المبررة إياها، حدوداً دولية مع إسرائيل، تمت المصادقة عليها من قبل الأمم المتحدة. ولهذا السبب فإن النزاع الدائر حالياً ليس مجرد حرب إسرائيلية-عربية أخرى مثل سابقاتها، بقدر ما فيه من جوانب تتصل بالنظام الدولي في مجمله كانتهاك الحدود والسيادة الوطنية للدول. وغني عن القول إن تقويض هذه المبادئ والأسس سيلقي بتداعياته الكارثية على نوعية الحياة في العالم قاطبة.
ومن جانبه لم يظهر لبنان بعد قدراً كافياً من التماسك الداخلي الذي يؤهله للسيطرة على "حزب الله"، ولا يبدو أنه قادر على تحقيق تماسك كهذا في القريب المنظور. ولذلك فإن السبيل الوحيد الذي يمكن أن ينتهي إليه النزاع الحالي إلى حل إيجابي ما، هو تضافر جهود النظام الدولي مجتمعاً– ولست أعني الغرب وحده هنا بهذه العبارة- بما فيه دول مثل روسيا والصين والهند ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية- في سبيل تشكيل قوة عسكرية دولية، تمكن الجيش اللبناني من بسط نفوذه في الشريط الحدودي المتاخم لإسرائيل والمرابطة هناك من أجل حمايتها من الهجمات التي تتعرض لها من قبل ميليشيات "حزب الله".
والمقصود بهذا ليس تشكيل قوة حفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة، إنما قوة دولية شبيهة بتلك التي تمكنت من تحرير كوسوفو من قبل، مع العلم أنها قوة جيدة العتاد والتسليح الحربيين، واسعة الصلاحيات وقادرة على إنجاز كافة مهامها الموكلة إليها. وفي تقديري أن تتألف هذه القوة من دول مثل فرنسا وروسيا والصين والهند، على نحو تخشى إيران ووكلاؤها خوض أي نزال عسكري معها. وعلى رغم خشية إسرائيل من تواجد قوات دولية أجنبية غير فاعلة في حدودها، فمن المؤكد أن هذه القوة هي أفضل حالاً من أن يستحيل النزاع الحالي إلى حرب ثأرات متبادلة بينها وأعدائها، وأن لا شيء قادرا على صد قوى الفوضى في لبنان اليوم، أكثر من قوى النظام الدولي المؤهلة لتمكين الحكومة اللبنانية الديمقراطية المنتخبة من بسط نفوذها وسيادتها على حدودها المشتركة مع إسرائيل.
في هذا السياق فإن من رأي "جيدي جرنشتاين"– رئيس مركز "ريوت" للأبحاث الدفاعية الإسرائيلية- إنه كثيراً ما جرى التصدي محلياً لمثل هذه الهجمات التي يشنها "حزب الله"، على رغم ما لها من تأثيرات وتداعيات أمنية على النظام الدولي بمجمله. ومضى مضيفاً إن السبيل الوحيد لهزيمة هذه الشبكات هو التصدي لها دولياً. لكن ومن أسف أن قوى النظام الدولي ليست موحدة الآن بأية حال. ويعود السبب وراء هذا الشقاق إلى جانب يتعلق بغيرة وتمرد دول مثل الصين وروسيا والكتلة الأوروبية تقليدياً على القوة الأميركية، بينما يتعلق الجانب الآخر بغباء نهج بوش الذي غلّب أحادية القوة الأميركية على شرعية الإجماع والعمل الدوليين.
وهاهي اللحظة التي تعين فيها على عالم النظام في مقابل عالم الفوضى أن يتحد ويرص صفوفه معاً. فليست هذه حرب تخوضها إسرائيل بمفردها. وليعلم الرئيس بوش ووزيرة خارجيته أنه ليس في وسع سوريا وحدها صد "حزب الله" عما هو ماض فيه. ولا بد لإدارة بوش من أن تسعى لإنشاء تحالف دولي للدفاع عن عالم النظام هذا، وإلا كان مصيرنا العجز أمام "تسونامي" الجيوسياسي الذي تمثله قوى الفوضى ممثلة في "حزب الله" وتنظيم "القاعدة" وإيران.