لرائحة الأهل دفء خاص، مسكي ريحاني، من ذلك النوع الذي ينشر الاسترخاء والحنان والأمان في داخل الروح، لكن لرائحة أهلنا في لبنان هذه الأيام هبّات كيماوية وروحانية غريبة تمتد من تلك التي لا تخنق التنفس فحسب بل والنفس أيضاً، إلى تلك التي لا تسقي هذه النفس بماء الكرامة فحسب بل وتسقي النفس (بفتح الفاء) بغذاء غريب يمد عمر المقاومة ويروي شجرة تفاؤل قد لا يصدقه إلا من عاش ظروفاً مشابهة. الزميلة هدى ابراهيم، ابنة النبطية الشهيدة أبداً، البطلة أبداً منذ وجود الكيان السرطاني على حدودنا الجنوبية، تنجح في الاتصال بمدير مستشفى جبل عامل، فيقول لها من جملة ما يقول إن رائحة الأسر التي يطمرها الطيران “الإسرائيلي” تحت أنقاض منازلها تصل إلى المستشفى من دون أن تتمكن فرق الدفاع المدني من الوصول إلى إنقاذها. لكن هدى تنهي نشرتها الإخبارية وتقول لي على الهاتف إن أمها الكهلة رفضت مغادرة النبطية رغم طلب أبنائها الذين في الخارج. هي، إذاً، رائحة الأهل بشقيها النقيضين: رائحة الأم الصامدة ورائحة لحمنا ودمنا المدفون حياً. لكن هدى تقول لي رغم ذلك: لنكن متفائلين، الأرض هي التي ستحسم المعركة وليس غرف اللقاءات السرية. هل سيصلون إلى قتل مليون ونصف المليون أو مليوني لبناني ليمرروا المخطط؟

أضع يدي على وجهي وأبحر لحظة. غريب.. واحدة من أقرب صديقاتي في فلسطين: ربما الأقرب، هدى حمودة، كانت تقول لي قبل أيام كلاماً مشابهاً من غزة وتدعوني إلى الصمود. هدى الفلسطينية بالولادة، العراقية بالزواج، والتي عادت إلى غزة تاركة ابنها شهاب في الفلوجة، وعندما دعاه أهله في عمان إلى الخروج كان رده: “أرسلوا لي تنورة”.. (المسألة هنا أكبر من أن نناقش ذكورة تتعالى على التنورة، بل ولماذا لا نفهمها إحساساً بواجب الحماية).

هذا التواتر يفسر عملياً وببساطة عبارة حسن نصرالله في كلمته الأخيرة لنا: “الحرب في لبنان ليست ضد لبنان بل ضد المنطقة، وحسمها إن بهزيمة لا سمح الله، وإن بنصر، سيحدد مصير المنطقة”.

هذا القول لا يعني أبداً أن نصرالله أو أياً منا يجهل أن الحسم في العراق أو في فلسطين أقل أهمية، بل يعني من الناحية الاستراتيجية ما كنا نصرخ به منذ اغتيال الحريري الأب، أن الذي وضع المتفجرة كان ينظر إلى دمشق وفلسطين، ولكن في البعد النهائي إلى بغداد. وهذا ما جاءت تؤكده المعلومات السياسية التي بدأت تتسرب حتى عن العدو “الإسرائيلي” والدوائر الغربية خلال الأيام الاخيرة، حول مخطط الحرب، بدءاً من نشر “معاريف” خبراً يتحدث عن أن خطة الحرب موضوعة في الدرج “الاسرائيلي” منذ خمسة أشهر، إلى الخبر الجديد الذي أوضح أن فيلتمان أبلغ الجهات اللبنانية منذ شهر مارس/ آذار بأن أمريكا تمنحهم فرصة خمسة أشهر لنزع سلاح حزب الله، فإن فشلوا تولت المهمة بنفسها. ونفسها هذه المرة هي “اسرائيل”. وإلى أنباء توالت بعدها عن أن جهات في طرف العدو “الاسرائيلي” أرادت وقف إطلاق النار إلا أن الامريكيين رفضوا، ولم يسمحوا لأحد، حتى للأوروبيين، بالتحرك إلا تحت سقفهم.

هذا ما يذكّر تماماً بما حصل عام 1982 عندما أوكل أمر إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان إلى وكلاء “إسرائيل” فيه، وعندما عجزوا بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية، تقدم شارون للقيام بالمهمة بجيشه. مع فارق أن المعركة هذه المرة هي أكبر حتى من “اسرائيل”، ولذلك تعطى “الدولة” العبرية لقاء ما تتحمله ضوءاً أخضر لتفجير كل الحقد اليهودي الذي احتشد غلياناً حارقاً في الصدور منذ تحرير ،2000 ولتكن لها فرصة الانتقام التي لم تحلم بها يوماً، ولكن لتكن عليها مواجهة الرعب.

هي تنتقم منا بروائح أهلنا، ونحن نستمد القوة العميقة من روائح أهلنا. روائح تملأ الجو من البصرة إلى بيروت ومن غزة إلى طرابلس. فمن يأتي يذهب، والذي ينبت من أحشاء الأرض فإلى أحشائها يعود.