نصر شمالي

في أحد وجوهه الرئيسة، لم يكن ما وصف إفراطاً في ممارسة التدمير والقتل ضدّ الفلسطينيين في الضفة والقطاع سوى التمهيد لجولة التدمير والقتل اللاحقة في لبنان، وإنه لمن الواضح أن جميع ما يرتكبه الإسرائيليون هنا من أفعال الوحوش هو الأداء المتطور لما ارتكبوا مثله هناك في فلسطين: القتل والتدمير كأنما عشوائياً لأبسط مظاهر الحياة وشروطها!

إن الإسرائيليين ينبرون اليوم لممارسة دور يليق بعنصريتهم التلمودية، سواء في فلسطين أو لبنان أو في غيرهما إذا ما اتسع نطاق العمليات العسكرية الحربية، وقد قال المرتزق المتوحش أولمرت في كلمة له ( 17/7/2006) أن العمليات العسكرية لن تتوقف حتى تنصاع المقاومة لإرادة المتحضّرين! أي تماماً مثلما انصاع الهنود الحمر المتوحشين في أميركا للمستوطنين الإباديين المتحضرين! إنه انصياع لا يعني غير اضمحلال أمتنا وتلفها وزوالها!
وإذا لم يكن ثمة ريب في أن ما حدث ويحدث في فلسطين هو تمهيد لعمليات إسرائيلية إقليمية أوسع، فليس ثمة ريب أيضاً في أن الهجمة الشرسة ضدّ لبنان أعدّت مسبقاً في أدقّ تفاصيلها، وأنها سوف تشنّ بسبب أو باختلاق سبب، أو حتى من دون سبب مباشر!

حقيقة النظام الرسمي العربي!

لقد بدا ويبدو واضحاً تماماً، في فلسطين ثم في لبنان، أن الإدارة الأميركية أطلقت المستوطنين الإسرائيليين الإباديين لممارسة وحشيتهم بلا حدود، فانفلتوا كقطيع من الضباع الجائعة، غير أن هذه الإدارة لم تطلق أعنّتهم فحسب، بل عملت مسبقاً على عزل ضحاياهم، بل وعلى تكبيل الضحايا وتكميمهم، للحدّ من فعالية مقاومتهم ولخنق أصواتهم أيضاً، وهو ما لم يكن ممكناً أبداً من دون تواطؤ وتعاون النظام الرسمي العربي، فقد انكشفت حقيقة هذا النظام اليوم للجميع، ليس كمقصّر في القيام بواجباته بل كشريك في العمليات الحربية ضدّ أمته، وهي الحقيقة التي ظلت خافية لعقود طويلة من السنين، حيث الناس عموماً ظلوا يتطلعون إلى تلافي النظام الرسمي لتقصيره ونواقصه، وتحمله لمسؤولياته وقيامه بواجباته، وبالطبع كان ذلك وهماً قاتلاً جعل الأمة تؤخذ بسهولة من مأمن، فالنظام الرسمي العربي جزء لا يتجزأ من النظام الربوي الصهيوني العالمي، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، فهو لهم ومعهم وليس لأمته بل عليها، ولعله لا يستطيع حتى لو أراد، بمجمله أو بعضه، أن يكون غير ذلك، نظراً لظروف ولادته بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الاستقلالات الشكلية الظاهرية، ويكفي القول أن جامعة الدول العربية قد تأسست بمبادرة من بريطانيا، وأن من بشّر بولادتها وحدّد وظائفها هو أنطوني إيدن رئيس الوزراء آنذاك، وأنها لم تكن في أي يوم من الأيام سوى مؤسسة إقليمية من مؤسسات النظام الربوي العالمي الذي تقوده واشنطن اليوم، مؤسسة تسهر على حفظ مصالحه وترتيباته الجغرافية والاقتصادية والسياسية في المنطقة العربية، وتدافع عنها ضدّ أية محاولة للمساس بها سواء أكانت المحاولة رسمية متمرّدة أم شعبية ثائرة!

الانفراد بالجزيئات وإبادتها!

لقد جرى تشكيل النظام الرسمي العربي من عدد كبير من الدويلات/ المربعات، المنفصلة عن بعضها من جهة، والمنفصلة عن مركزها وعمودها الفقري الذي هو الأمة من جهة أخرى، فتحوّلت الأمة إلى رقم هو أول الآحاد، وتحولت الدويلات/ المربعات إلى أصفار على شماله، فغابت الأمة إلى حد كبير جداً، وافتقدت الدويلات الإرادة المستقلة، وبالطبع فإن الخلاص يقتضي نقل الدويلات/ المربعات/ الأصفار من شمال الأمة إلى يمينها، كي تتحول الأمة من رقم عاجز هو أول الآحاد إلى رقم مركب من عشرات الملايين ومئات الملايين، الأمر الذي يقتضي توفر مركز تنطلق منه عملية التحول المصيرية هذه، وبالطبع عشنا على مدى القرن الماضي محاولات عديدة، رسمية متمرّدة وشعبية ثائرة، للعودة إلى الوضع الطبيعي بنقل الأصفار من شمال الأمة إلى يمينها، وها هي هذه المحاولات وقد بلغت مرحلة متقدمة في فلسطين والعراق ولبنان والسودان، بفضل التراكم الكفاحي التاريخي للأجيال المتوالية بمختلف تياراتها ومذاهبها، الأمر الذي جعل العدو يزجّ اليوم بجميع خطوطه الدفاعية في الميدان: النظام الرسمي العربي، والكيان الإسرائيلي، والقوات الأميركية/ الأطلنطية! مدعومة بكل طاقته، في عملية كبرى للقضاء على هذه المحاولات التحررية في مهدها!

وفي سبيل تحقيق هدفه يلجأ العدو إلى عملية تجزئة الأجزاء، وتحويل المربع/ الدويلة إلى مربعات أصغر، ينفرد بكل واحد منها انفراداً تاماً، ويبيده إبادة تامة، فقد انفرد بالضفة والقطاع بمساحتهما التي تبلغ حوالي ستة آلاف كيلو متر مربع، وبسكانهما الذين تعدادهم أكثر بقليل من ثلاثة ملايين ونصف فلسطيني، ثم انفرد بلبنان الذي مساحته حوالي عشرة آلاف كيلو متر مربع، وبعدد سكانه الذي لا يزيد كثيراً جداً عن عدد سكان الضفة والقطاع، وسواء في فلسطين أم في لبنان أم في العراق والسودان، يحاول العدو تقطيع أوصال الأرض والسكان والانفراد بكل طرف على حدة وإبادته، بينما النظام الرسمي العربي، الذي هو أصفار على الشمال، يقوم بوظيفته في تحقيق العزل وإحكام الحصار على بؤر التمرّد والمقاومة!
غير أن أحداً لا يستطيع اليوم استبعاد انتقال الأصفار من الشمال إلى اليمين بطريقة أو بأخرى، فالظروف المستجدة إقليمياً ودولياً تشير إلى إمكانية تحقّق هذا الاحتمال.