صبحي غندور

هل لبنان اليوم ساحة صراع خارجي أم هو مستهدف بذاته وبكلِّ ما فيه؟

وهل المنطقة العربية تشهد صراعاً إقليمياً/دولياً غير معنيّة به، ويجوز بالتالي لحكوماتها وشعوبها الجلوس في موقع المتفرّج على الصراع؟

هذه التساؤلات هي الأهمّ الآن، وستحدّد الإجابة عليها مصير التطورات الجارية حالياً في كلّ منطقة الشرق الأوسط.

نعم هناك صراع دولي/إقليمي على لبنان والمنطقة العربية. نعم هناك محوران يتصارعان الآن في منطقة الشرق الشرق الأوسط: أميركا وإسرائيل من جهة ضدّ إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس. لكن ما الذي أوصل لبنان والمنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد العسكري؟

المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية الحالية التي وضعت العراق في قمّة أولوياتها منذ مطلع العام 2001، وقبل الأعمال الإرهابية في أميركا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسرائيلي بعدما كانت الأولوّية هي لملفّات هذا الصراع في نهاية إدارة جورج بوش الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ في سنوات إدارة كلينتون حتى آخر شهر من وجوده في البيت الأبيض.

فلو ضغطت واشنطن على إسرائيل للانسحاب من الجولان والضفة والقدس وغزّة، ومن مزارع شبعا، هل كان للمنطقة أن تشهد ما تشهده الآن من تصعيد عسكري وتأزّم سياسي خطير؟!

لو تجاوبت الإدارة الأميركية بشكلٍ جدّيٍّ مع مبادرة السلام العربية التي أعلنتها قمّة بيروت عام 2002، وأقامت على أساسها مؤتمراً دولياً لاستكمال المفاوضات وتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات، وإعلان دولة فلسطينية، هل كان للأمور أن تنفجر انفجارها الحاصل اليوم؟!

لو تمّ ذلك، لما كانت هناك مشكلة تتعلّق بسلاح المقاومة في لبنان أو في فلسطين. فالحرب الأميركية على العراق والتخلّي الأميركي عن عملية السلام في الشرق الأوسط، هما مسؤولية الإدارة الأميركية الحالية، وهما السبب في انتعاش حركات المقاومة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، وكلّ مظاهر الغضب على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

ثمّ لو جرى فعلاً تنفيذ قرارات مجلس الأمن 242 و338 وما قبلهما من قرارات تتعلّق بالمسألة الفلسطينية، هل كان لسوريا أن تكون في موقع متناقض مع السياسة الأميركية؟

المسؤول إذن عن ازدياد التأثير الإيراني في المشرق العربي هو السياسة الأميركية نفسها التي أطلقت العنان للرؤية الإسرائيلية القائمة على قهر الشعب الفلسطيني والاستمرار بالاحتلال والاستيطان في الضفّة والجولان، تماماً كما كانت الحرب الأميركية على العراق هي المسؤولة عن تصدّع وحدته وجعله ساحة صراع لنفوذ قوًى إقليمية عديدة.

إنّ غياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته.

وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الأجنبي الدولي والإقليمي.

وغياب الوفاق الوطني الحقيقي في لبنان أو في أيّ بلد عربي هو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل وتحويل الوطن إلى ساحة صراعات ..

إنّ الفراغ لا يقبل نفسه، بل هو دعوة (كقانون علمي حتمي) للامتلاء بشيء آخر.

وهناك فراغ حاصل في المنطقة العربية لأكثر من ثلاثة عقود، فراغ الدور العربي والقيادة العربية لمجريات أحداث المنطقة، فراغ حصل بعدما كانت القاهرة تقود المنطقة طوال عقديْ الخمسينات والستينات.

وقد حاولت عدّة أطراف عربية أن ترث هذا الدور ففشلت لأسباب عديدة أهمّها فشلها في دائرتها الوطنية ذاتها، فكيف لها أن تنجح في عموم الدائرة العربية؟!

هناك، على الطرف الأميركي، توظيف الإدارة الأميركية الحالية لما حدث في نيويورك وواشنطن من أعمال إرهابية عام 2001 من أجل بسط الهيمنة الأميركية على عموم العالم وبناء (نظام أميركي جديد للعالم). وتمتدّ الوسائل الأميركية من الترغيب إلى الترهيب لعدّة شعوب ودول وحكومات في العالم، ومن ضمنها المنطقة العربية، ولإسرائيل دور مهم في هذه الرؤية الأميركية حيث تشكّل حالةً شبيهة لدور الحلف مع دول أوروبا الغربية (حلف الناتو) خلال فترة الحرب الباردة ضدَّ المعسكر الشرقي. فساحة الحرب الأميركية المفتوحة الآن هي بلدان العالم الإسلامي، وخصوصاً المنطقة العربية. وإسرائيل موقع مهم جداً لواشنطن في هذه المرحلة إضافةً إلى العوامل الأيديولوجية والمصلحية المتحكّمة حالياً في صنع القرار الأميركي والتي تجعل من إسرائيل بالنسبة لبعض الأميركيين حليفاً استراتيجياً وعقائدياً!

قد تكون أجزاء من "الحالة الأميركية" القائمة الآن، هي سمات مؤقتة ترتبط بطبيعة الإدارة الحالية التي ما زال أمامها حوالي العامين من الحكم وصنع القرار الأميركي، لكن ما هو غير مؤقت بتوقيت عمر الإدارة الحالية، هي المصالح الأميركية في العالم مع السعي الأميركي لإبقاء واشنطن هي صانعة القرار للعالم كلّه.

وكما استفادت أميركا من ثغرات أنظمة وخطايا حكومات وحروب داخلية في أوروبا ولدى المعسكر الشيوعي، فإنها استفادت أيضاً – وتستفيد الآن– من سياسات وخطايا وحروب أهلية حدثت وتحدث في المنطقة العربية ولدى بلدان العالم الإسلامي.

وتتداخل أيضاً في أوجه الصراعات السلبية، الظروف التالية:

- سقوط التوازنات الدولية وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة قادرة على التحكم بالتطورات العسكرية والسياسية بمعظم أرجاء العالم.

- بعض الدول العربية يواجه مخاطر مصير الكيانات - فكيف بمصير النظام السياسي؟

- فتن داخلية في بعض الدول مما يهدّد وحدة الكيانات الوطنية ويدمّر مقومات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الوطن، في ظل تحريك المشاعر الانقسامية بين أبناء الشعب الواحد، إن لأسباب داخلية أو بتشجيع وتحريض من قوى خارجية.

- تراجع صيغ العمل العربي المشترك ودور الجامعة العربية في حلّ الأزمات العربية.

* وقوع الأطراف العربية كلها في مأزق عملية السلام مع إسرائيل: عجز عن الحرب معها.. مقابل تعجيز إسرائيلي في شروط السلام ومواصلة أسلوب العدوان على الفلسطينيين واللبنانيين!

- تزايد دور أطراف إقليمية غير عربية ممّا زاد من محاصرة وإضعاف الوضع العربي الراهن.

- سعي واشنطن لمنع أي تضامن عربي حتى في حدّه الأدنى ( تحفظات أميركا على القمم العربية وعلى الجامعة العربية بشكل عام) وتشجيع الصراعات العربية/العربية التي هي لإسرائيل مصدر قوّة، ولأميركا مبرّر لطلب المساندة منها! في ظل السعي لتحجيم دور مصر ومنع دورها القيادي التاريخي في المنطقة.

- إبقاء التفوّق العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مجتمعة، والضغط على الدول الكبرى لمنع تسليح بعض الدول العربية.

- ضغط أميركي متواصل على الحكومات العربية من أجل إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل بغضِّ النظر عن فشل عملية السلام.

- السعي لمنع أي مقاومة مسلحة للاحتلال الإسرائيلي تحت حجة أن أي مقاومة مسلحة هي حالة إرهابية يجب محاربتها عربياً ودولياً... حتى لو كانت فقط ضدَّ قوات الاحتلال في لبنان أو الضفة وغزة!.

***

إنّ أميركا أدركت دروس حرب 1973 حول ضرورة عدم الاعتماد فقط على إسرائيل أو على "صداقاتها" مع دول عربية.. وهي قد أنشأت "قوة التدخل السريع" أيام الرئيس كارتر بعد قرار حظر النفط الخليجي ثمّ كانت هذه القوة نواة الوجود العسكري الأميركي في كل منطقة الخليج..

إنّ أميركا تسعى لبناء واقع شرق أوسطي جديد - لا يُغّير كثيراً من طبيعة الحدود والكيانات - لكن يقوم على اتفاقات ومعاهدات بين إسرائيل والدول العربية المهترئة في الداخل والمتصارعة مع بعضها، بحيث تكون التكتلات الإقليمية وصيغ العمل المشترك، مسموح فيها بمقدار ما تساهم إسرائيل فيها وبما يحقق ويضمن المصالح الأميركية.

***

هناك الآن فعلاً صراع محاور إقليمية ودولية في لبنان والمنطقة العربية، لكن على الرافضين له أن يصنعوا البديل الوطني الصالح والبديل العربي الأفضل، وليس تسهيل سياسة المحور الأميركي/الإسرائيلي ومشاريعه الطامحة للسيطرة على كلّ مقدّرات العرب، والعاملة على تفتيت المنطقة إلى دويلات متصارعة من خلال نظريات "الفوضى الخلاقة" أو "الديمقراطيات الفيدرالية" أو "الشرق الأوسط الجديد"!