عبد اللطيف مهنا

ما الذي يمكن أن يضيفه لاسمها كل هذا المجد المعمد بالدم الزكي المضحي... ماالذي سوف يخلعه عليها كل هذا العنفوان المقاوم العنيد المنبعث من عذابات أمة عزيزة إنثلمت كرامتها... ما الذي سيضيفه المجد ويخلعه العنفوان لتغدو في وجداننا أكثر مما يعنيه اليوم وسوف يعنيه من الآن فصاعداً لنا اسمها... اسم بنت جبيل؟!!

بنت البطولة، أخت الكرامة، بعض الإرادة العربية، أومطلقة مع من يطلق في فلسطين والعراق إرهاصات انبعاثها الواعد... أو هذه البلدة الملحمة، بما يرمز له موقعها وترمز له وقائعها، من على بعد أذرع قليلة... مرمى حجر... من تخوم فلسطين الأمة السليبة... ومن هي، وما الذي سوف تخطه لها أيامنا... أيامنا الحافلة بالعذابات والبسالات والإنكسارات والممانعات والأتواق... تخطه لها من رسم يليق بها على خارطة وجودنا وأحلامنا سوى ما رسمته هي لمستقبلنا ولأجيالنا على محاور: تلة مسعود، عيترون، مارون الراس؟!!
... هذه المحاور، أو هذه المصيدة المتنقلة خفة ورشاقة وصلابة وتمكناً، تلك التي نصبها صائدوها لمايسمونهم منتسبي "قوات النخبة" في جيش العدوان الغازي المتعثرة حظوظة على أعتابها... الجيش الذي استقبلته أو استقبله مقاوموها بما يليق به باغ من استقبال...

... ومن هي بنت جبيل مستقبلاً، سوى من قلبت سواعد مجاهديها المعادلة ميدانياً أولاً فسياسياً ثانياً، فكانت، والحالة هذه، تلك التي من قمم تلالها وبين ثنايا أوديتها، وعلى تخوم ركام منازلها العصية، ما سوف يرسم من منعطف صراع... منعطف أقل ما يمكن أن يفضي إليه هو إلى ما هو حتّام يدشن مرحلة صراعية جديدة... فاستحقت، وقد كان كل هذا منها، أن يعلن على شرفها سيد مقاومتها وقائدها: أنه آن أوان مرحلة مابعد حيفا... ومابعد بعدها سيلحق !!!
* * *

قالوا، وقد صدقوا، فتحت عاصمة المقاومة بيوت عزاء إعلامية لدى أعدائها المنثلم جبروتهم على يديها، انعكس ما فعلته ندباً تعالى هناك، كان صداه فحيحاً في مستواهم السياسي المرتبك الحائر المصدوم... صدى سيترجم ترجمة "فورية" تبادلاً للوم يستشري أواره بين هذا المستوى والمستوى العسكري أوالأمني لتطال تداعياته الأولية حكومة أولمرت... حتى الآن السياسيون اتهموا العسكر بتحويل ما يفترض أنه مجرد عملية سحق مقاومة لاأكثر إلى حرب مفتوحة، وهذه المفتوحة التي لايمكن إيقافها دونما تحقيق الحد الأدنى من استهدافاتها، إلى ورطة... استهدافاتها، أو أقله، إن عزّ تحقيق تلك الإستهدافات، فلو ما تيسر من بعض نصر معنوي من شأنه أن يحفظ صورة قوة طاحنة ماحقة فاجرة عجزت... أو كرامة جيش مدجج لطالما صوّروه زاعمين بأنه لايقهر... أو، وإذا ما ذهبنا أبعد، أو ردينا الأمور إلى نصابها، أو الفرع إلى الأصل، ترميم الصورة الردعية التي تهلهلت لتلك الامبراطورية الإستباقية التي يخوضون حربها بالوكالة عنها وبالأصالة عن أنفسهم... الصورة التي تشوهت وتلطخت وتهتكت على يد أخوة لبنت جبيل في الفالوجة والرمادي... وآخرون هناك بعيداً في قندهار... على أبواب بنت جبيل انتصب مأزق الطغاة شاخصاً للعيان... عجز اسرائيلي عن حسم عسكري... تلاه، أو كان رديفه، عجز أمريكي عن حسم سياسي... حسم رديف يفترض أنه ثمرة للأول، أو مكمل له، أو على الأقل، ينوب عنه، أو في أسوء الأحوال يغطي عورة فشله... فقال قائلهم مولولاً: "الحبل الذي ترميه أمريكا إلى اسرائيل يخنقها"!!!

... وقالت "هآرتس":

تقلصت قائمة الأهداف العدوانية. لاسحق ولادهس ولامعس لحزب الله، وإنما رست على قوة دولية، لاشأن لها فيما كان مطلب تجريده من صواريخه، ولانزع سلاحه وسلاح الفلسطينيين... فقط مهمتها عدم السماح لهذين الطرفين بحمل سلاحهم في الجنوب... قوة لن تنشر خارج الجنوب ولا على الحدود مع سوريا كما سبق وأن طالب أولمرت... الوقائع الميدانية أجبرت رايس أن تومي بما يشي بضوء أخضر، لكوفي أنان، كانت سابقاً تصرعلى حجبه، لبدء بذل مساعيه الحميدة بإتجاه دمشق وطهران..!
* * *

عاندت بنت جبيل الغزاة، فلّ الدم الطهور آلة الحرب الهوجاء المنفلتة من عقالها، تمنعت عاصمة المقاومة على الإنكسار، فلقّنت الغزاة درساً، فراع سدنة العدوان السبعة ما روّع جنود لواء "غولاني" ودفعهم للفرار بجلودهم، أسقط في يد جلاوزة مايدعى "المطبخ المصغر"، وشاطت طبخة مديري العدوان المفوضين تقييم نتائجه وإتخاذ قراراته... أولمرت، بيرز، بيرتس، ديختر، يشاي، موفاز...

... قال بيرتس منذراً ومتوعداً في ذات الوقت: إنها "معركة وجود"... وقال أولمرت: "إننا نخوض حرباً مختلفة عن حروب الماضي... الجبهة الخلفية غدت جبهة قتال" ... وقال بيرتس: " مسموح لنا أن نتألم ولكن محظور علينا أن ننهار" ... برّر الجنرالات صدمة بنت جبيل، قالوا أنها بسببٍ من توفر ما دعوه "التكنولوجيا التسليحية" الأحدث لدى المقاومة... أطنب جرحى "غولاني" في توصيف صلابة من ألحقوا بهم الخسائر التي اعترفوا بأنها فادحة... شاطت طبخة طباخي الموت... هربوا إلى الأعلى... هربوا جواً... فعادت طائراتهم الأمريكية المنشأ والتوظيف إلى "سلة أهدافها" المستنفذة، لتدمير المدمر، وإعادة قصف المقصوف... طفقت تبحث عن ثمة هدف لم تقصفه بعد... لم تجد سوى سيارات الإسعاف وراكبي الدراجات... لم تعثر على عناوين المقاومة المحفورة عميقاً فحسب في صدور الشعب... قال حاييم رامون: أنا مع "استكمال تدميري"، وخصوصاً لما نجا حتى الآن من خطوط الكهرباء والماء... عاب وزير عدلهم، الملاحق قضائياً بتهمة تحرش جنسي، على دولته أنها " تعمل بحساسية أكثر من تلك التي أبداها حلف الأطلسي في بغداد... أما زعيم حزب شاس إيلي يشاي فطالب بقطع الأكسجين في بيروت مقابل قطع الكهرباء في حيفا..!

حاول أولمرت تهدئة روع المرتاعين باللجوء إلى الوصفات التوراتية، التي تصنف وقائع بنت جبيل بأنها، كما قال، حرب "مابين الضائقتين" ، مذكراً مرتاعيه بالتعبير التوراتي الذي يرمز إلى ما يحتفى سنوياً بذكراه لديهم... إلى مايدعى "أيام الشدة" المرتبطة في أساطيرهم بخراب الهيكل المزعوم...
* * *

أمام عناد بنت جبيل، ابتدعوا ماوصفوه ب"استراتيجية التراجع"... عادت الأمور بالنسبة لهم إلى مربعها الأول، إلى ما قبل أكثر من أسبوعين...تعثر هدف احتلال أرض لفرض شروط تصفية مقاومة... تصفيتها باسم الشرعية الدولية، وحماية احتلال بقوات أطلسية أو ما شابه، ترسلها تللك الشرعية ... استلّوا من جعبة ثمانية بطرسبرغ مؤتمر روما تحت مظلة أنسنة العدوان... حاولوا تغطية الإستعراض الدموي الواصل حدود الهمجية القصوى، و فظاعة مذبحة عشرات الضحايا يومياً الدائرة في لبنان وغزة بطبول دعم "مجتمعهم الدولي" للهمجية المتحضرة ... وببعض من تواطىء الدونية والتبعية العربيتين... كان الأمريكان متعهدوا مؤتمر روما كما كانوا المرجع المقيم في غرفة عمليات الحرب الإسرائيلية... ربما لأول مرة، هذه الثكنة تقوم بالدور المناط بها مباشرة وبأمر عمليات أمريكي مباشر... أرادوه في روما مؤتمراً لأطلسة الجنوب اللبناني بلون إغاثي لكنه بجوهر يحقق مالم يحققه العدوان، بعد أن فشلت الفكرة الأولمرتية المعبر عنها ب"تنظيف الجرح"، وعدم جدوى أربعة آلاف وخمسمائة غارة مدمرة في أسبوعين لاأكثر... في روما كان مهرجاناً يوحي بنوع من نية مزعومة "لإعادة إعمار لبنان" على ذات الطريقة التي أعادوا فيها إعمار أفغانستان والعراق... سبق ذلك أن أعادت كونداليسا رايس رميم فكرة الشرق أوسط الكبير إلى التداول، داعية إياه بالجديد هذه المرة..! وكانت، وهي تربط العدوان بشرق أوسطها هذا، تعيد إلى ذاكرتنا مجمل الأهداف الأمريكية المتعددة في بلادنا!

في روما حاول المجمعون على استهدافات العدوان قوننته وتوفير الظروف السياسية له وتغطيته إنسانياً... حاولوا إعطاء اسرائيل الوقت الكافي لإكمال المذبحة واستكمال أهدافها... والعودة لهم برأس المقاومة... مع استدراك يقول:
الفرنسيون، كعادتهم، حاولوا ذات التمايز الكاريكاتوري الذي حاولوه غالباً، أي الإختلاف دونما الخروج على عصا الطاعة الأمريكية، أو مجافاة ماهو الثابت في السياسة الأوروبية الإلتحاقية... أما أممياً، فعاد صوت بوم الشرعية الدولية الناعق، هذا المتمثل في نعيب تيري رود لارسن، إلى إطلاق زعيقه الإسرائيلي اللهجة:

حذر لارسن، على سبيل المثال، الجيش اللبناني من المشاركة في صدّ العدوان على بلاده "لأن من شأن تصعيد كهذا تقويض الحكومة اللبنانية وانهيارها"!

... في روما، وقبلها وبعدها، ابتذل مفهوم الحرب على ما يسمى الإرهاب أكثر مما هو مبتذل أصلاً، لدرجة أنه من الممكن تصور أنه قد يستخدم مستقبلاً شعاراً في مواجهة مهاجري الهجرة غير الشرعية عبر الحدود المكسيكية، أو صائدي الفقمة في البحار الشمالية، أو دعاء ثكلى عراقية أو فلسطينية أو لبنانية أن ينتقم الله من بوش... تمخّض جبل مؤتمر روما بقرار أمريكي فولد فأر "العمل من أجل التوصل بشكل عاجل إلى وقف إطلاق النار"...بما يعني تمديد المهلة المعطاة لاسرائيل لمواصلة العدوان...!

...بنت جبيل كانت حاضرة هناك... قالت هي أيضاً كلمتها!
وكما كان في روما، كان في نيوروك... في مجلس الأمن لصاحبه بولتون... وحول الاستهداف العمد للمراقبين الدوليين، عبّر مجلس الأمن عن "صدمته" لقتل الإسرائيليين لأربعة من المراقبين الأمميين... وعن "قلقه العميق" للضحايا من الجانبين، المعتدي و المعتدى عليه، وتدمير البنى التحتية، وارتفاع عدد النازحين...! علّق المندوب الإسرائيلي غليرمن: بيان "عادل جداً ومتوازن"... وبالتوازي مع ما قاله غليرمن قال السفير الإسرائيلي في واشنطن داني أيلون:

"هناك مصلحة أمريكية إسرائيلية مشتركة لحسم المعركة عسكرياً مع حزب الله لأن لذلك تأثيراً بعيد المدى على حماس والفصائل الإرهابية الفلسطينية وعلى الحرب في العراق... وقال بوش:

هناك فرصة للسلام بفضل " إعلان الدول العربية قلقها من أعمال حزب الله"... أما رايس، فاعتبرت أن السنيورة وعباس والمالكي بمثابة "مستقبل الشرق الأوسط"!!!
* * *

في بنت جبيل، قال الدم العربي المقاوم لن يكون مصير "القوات الدولية" المقترحة مختلفاً عمّا كان من مصير "القوات المتعددة الجنسيات" أعقاب عدوان 1982 على لبنان... وقال:

انتهى عصر الانتصارات المعادية الخاطفة، كماسبق وأن انتهت إمكانية إحتفاظ العدو بمزيد من المحتل من الأرض العربية... فيها، وحيث ساح مصائد محاور تلة مسعود، عيترون، مارون الراس، حققت الإنسحابات التكتيكية للمقاومة، المتبعة بالهجمات المضادّة المفاجئة والماحقة معجزات حرب الشعب التليدة... عرف المقاومون كيف يستدرجون العدو إلى أفخاخهم المحكمة... كيف يدفعون متغطرسي "غولاني" و إخوانه لأن يولّوا الأدبار... وفيها... وسواء إندحروا أو إنكفأوا عنها، أم عادوا فتمكنوا منها أو دمروها... أو حتى إحتلوا أو دمروا الجنوب بأسره...فيها ... في بنت جبيل، تظل إحدى حقائقنا تقول:

شيّد الدم العربي نصباً آخر سامقاً يرمز لذاكرتنا المقاومة... فيها ومن تلالها لاحت إرهاصات القادم... تباشير إصطفافات شعبية يغذيها أوار غضب أمة يحتدم تلوح بروقه واعدة متوعدة... أصبحت عاصمة المقاومة رمزاً مجسداً لإرادة أمة... أمة ما أكثر عواصم مقاومتها وما أقل عواصم قرارها... أمة مأثورها التضحية وكانت عبر تاريخها البادئ مع بدء التاريخ مدرسة للشهادة...