تعتقد المؤسسة العسكرية ان مساندة سوريا لحزب الله ودعم صموده في وجه آلة القوة الوحشية “الإسرائيلية” في لبنان، المعادلة الصعبة والرهان القوي العنيد لهذا الكيان الذي سعى ولا يزال يسعى إلى تمرير مشروعه في نزع سلاح حزب الله وإبعاده صواريخه عن مرمى المدن الرئيسية “الإسرائيلية” التي واجهت للمرة الأولى منذ قصف شمال “إسرائيل” في السنوات الماضية.

فهل هناك خطط “إسرائيلية” للهجوم على سوريا؟ ولماذا هذا الاستعصاء السوري على السلام “الإسرائيلي” المفروض وهل هناك بوادر حرب مقبلة في الشرق الاوسط؟

منذ أكثر من أربعة عقود و”إسرائيل” ترى في سوريا الرقم غير السهل، وعقده استراتيجية لا يزال الساسة “الإسرائيليون” يرونها عقبة كبيرة وخطيرة على الهيمنة “الإسرائيلية”، لا سيما، أنها ترى في حزب الله جبهة مقاومة عنيدة في وجه هذا المحتل الغاصب والذي يريد سلاماً مرتبا وفق الرغبة “الإسرائيلية” تفرضه أمريكا تحت غطاء الشرعية الدولية. لكن سوريا لا تزال رافضة للحلول المسكنة والمنقوصة عن الحقوق العادلة لسوريا والقضية الفلسطينية.

يقول د. رضوان زيادة في كتابه “السلام الذاتي” أن سوريا منذ عقود وهي تنادي ب”الحل الشامل القائم على الانسحاب “الإسرائيلي” الكامل وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ولن يكون هناك اتفاق بين سوريا و”إسرائيل” قبل التوصل إلى اتفاق في الجبهات الأخرى”، فقدّم “الإسرائيليون” بعد ذلك اقتراحات لبناء الثقة من مثل منع نشاط المنظمات الفلسطينية في سوريا ووقف الحملات الإعلامية، فعاد العلاف إلى التأكيد “إنكم بذلك تصنعون العربة قبل الحصان، ولا يمكن التطرق إلى هذه القضايا قبل إقرار مبدأ الانسحاب والبدء بإجراءاته، وبعد ذلك ستكون هناك نتائج طبيعية هي نتائج الوضع السلمي”، وفي كل مرة يتحدث فيها الوفد “الإسرائيلي” عن المفاوضات المتعددة الأطراف وبخاصة المياه أو إجراءات بناء الثقة، فإن الوفد السوري يعود مباشرة ليسأل من جديد عن مدى قدرة الجانب “الإسرائيلي” على امتلاك أجوبة عن القضايا الأساسية التي يجب مناقشتها، مثل الانسحاب من الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة قبل الانسحاب الأحادي وماهو تصوّره لحق تقرير المصير حسب القرار (242)؟، فيجيب الوفد “الإسرائيلي”: “إن “إسرائيل” نفذت الجزء المتعلق بالأرض في القرار (242 )بإعادة سيناء إلى مصر”.

ولما انتقل “الإسرائيليون” للحديث عن مكان المفاوضات كما يقول زيادة والتي أشاروا إلى أنها يجب أن تنتقل إلى سوريا أو “إسرائيل” لخلق جو إيجابي ولسهولة الاتصال والإفادة من الخبراء والمستشارين “كانت إجابة الوفد السوري مباشرة وصريحة برفض هذا الاقتراح رفضاً قاطعاً، والتأكيد ل”الإسرائيليين” أن مدريد هي المكان الأمثل لمتابعة المحادثات وهكذا بدت الفجوة عميقة بين الطرفين”.

لكن الوفد السوري أكد أن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة كلٌ لا يتجزأ ولا يمكن الفصل بين أرض سورية محتلة وأخرى فلسطينية أو لبنانية، فلم يجد الوفد “الإسرائيلي” بداً من العودة إلى الوثيقة السورية “الأهداف والمبادئ” لإعادة صياغة فقراتها العالقة، وبخاصة الفقرة المتعلقة بالأمن والتي أصبحت معروفة لدى وسائل الإعلام ب”الفقرة الخامسة”، على الرغم من عدم نشر الوثيقة السورية، وتوصل الوفدان بعد أخذ ورد إلى الاتفاق على أن هناك ثلاث قضايا جوهرية ينبغي التوصل إلى حل لها بين سوريا و”إسرائيل”: السلام والأراضي والأمن.

ويضيف د. رضوان زيادة إن عوامل ثلاثة أسهمت في الإجهاز على عملية السلام، أولها كان اندلاع “انتفاضة الأقصى” التي هي تعبير مشروع عن ارث الإحباط المتراكم منذ سنوات لدى الفلسطينيين، وهي بشكل أو بآخر تمثل رداً على اللا مبالاة “الإسرائيلية” المستمرة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكن هذا العامل ليس حاسما لجهة وقف عملية السلام، فقد أثبتت الأحداث أن مفاوضات السلام يمكن أن تستمر على الرغم من تصاعد العنف في المنطقة، فالعامل الأكثر أهمية كان فوز آرييل شارون في الانتخابات “الإسرائيلية”، حيث كان انتخابه صاعقا لجميع الدول العربية، فإرثه الدموي لا يخفي نفسه، كما أن تصريحاته التي سبقت انتخابه تعبر بوضوح عن تنامي التيار اليميني الليكودي المتطرف الرافض لعملية السلام برمتها، والراغب في العودة إلى سياسة القضم والتسفير، أي ضم اكبر عدد من الأراضي وتهجير اكبر عدد من الفلسطينيين، وقد كان شارون يعبّر بصراحة عن عدم إيمانه بالاتفاقات الموقعة، من أوسلو وحتى مفاوضات طابا و”كامب ديفيد 2”، وعملياً فقد استطاع على الأرض تحقيق ذلك، وفق سياسة منهجية مخططة مسبقا لإنهاء وجود السلطة الوطنية الفلسطينية على الأرض، وإجهاض الحلم نهائيا بقيام دولة فلسطينية.

لكن العامل الأكثر أهمية كان وصول إدارة أمريكية جديدة لا تعترف بإرث عملية السلام السابق وما أنجزته هذه العملية، بل وتستخف به، وهي لذلك نأت بنفسها عن الخوض في تعقيدات الوضع في الشرق الأوسط، ما جعل عملية السلام برمتها تدخل في نفق مظلم، وانتهى بها الأمر تماما بعد 11 سبتمبر/أيلول أن تدفن فيه.

فالعالم بعد 11 سبتمبر/أيلول لم يعد يكترث بالسلام، أو حقوق الإنسان، أو الفقر، أو البيئة، أو الديمقراطية، بقدر ما أصبح عالماً مسكوناً بالأمن، ومهجوساً بمكافحة الإرهاب، وكأن أمن الولايات المتحدة أصبح مجاله الحيوي امن الكرة الأرضية بأكملها، ولذلك لم يعد لعملية السلام وجود إلا في تصريحات المسؤولين العرب الذين عجزوا عن البحث عن بدائل أخرى، أو على لسان المسؤولين “الإسرائيليين” الذي يعتبرون أن تسويقهم لمثل هذه الكلمات سيعفيهم من تحمل مسؤولية المذابح والمجازر اليومية المستمرة التي حدثت في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي خلقت جوا من الحقد والكراهية يصعب بعده أن يكون للفظة السلام أي صدى، أو مصداقية في المجتمعات العربية. لقد أعاد انتخاب شارون وممارساته المنطقة مجددا إلى أجواء عام ،1948 مع فارق جوهري هو أن الالتزام الدولي تلك الفترة كان على الأقل أكثر إحساساً بمسؤوليته من الفترة الحالية التي أخذ الإرهاب كل اهتمام العالم، ولم يعد للسلام متسع بين هذه الانشغالات.

وقد كان بشار الأسد معنياً أيضاً بإظهار دعم حقيقي لانتفاضة الأقصى يتجاوز الأطر الرسمية، فسمح بتأسيس “اللجنة الشعبية العربية السورية لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني”، والتي تهدف بشكل رئيسي إلى تقديم العون المادي للانتفاضة عبر جميع المحافظات السورية، ما يعطي الانتفاضة زخماً شعبياً يتجاوز المحددات الرسمية. وفي الوقت نفسه استمر بشار الأسد في تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع إيران عبر زيارة رسمية لها في يناير/كانون الثاني ،2002 ومواصلة الانفتاح التدريجي على العراق باستقباله نائب الرئيس العراقي في دمشق، وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين. وقد كشف في أحد حواراته أيضاً، أن شارون بمجرد انتخابه، وحتى قبل تشكيل حكومته، بعث وسيطاً إلى دمشق لإجراء مفاوضات سرية، وتنشيط المسار السوري، لكن بشار الأسد أجابه: “لماذا تريدون مفاوضات سرية؟ هل يخجل شارون من الظهور أمام العالم كرجل سلام؟”، وأضاف: “نحن لا نتعامل بهذا النمط من المفاوضات سنفاوض علناً”، وخاطب الوسيط طالباً منه أن يقول لشارون: “إن يبتعد عن لعبة تناقض المسارات فنحن لن نمكنه من ضرب المسار الفلسطيني بالمسار السوري، ولن نقبل بحل قضية الجولان قبل حل قضية فلسطين، والقدس بالذات.. فالقدس ملكنا جميعاً.. عرباً ومسلمين”.

ان التهديدات “الإسرائيلية” المبطنة لسوريا بعد صمود حزب الله يجعل منها تهديدات حقيقية خاصة ان سوريا ردت أنها سترد بحسم على أي هجوم “إسرائيلي” على سوريا، لكن القادة “الإسرائيليين” يضعون القضاء على قوة حزب الله في الفترة الحالية له الأولوية بعد أن يأتي تصفية الحساب، كما يرون، مع سوريا وربما إيران.