أبو يزن

أوجه الشبه كثيرة بين منزلنا في ضاحية الأمير راشد وأية مدرسة "رسمية" لبنانية جرى تحويلها إلى مأوى للاجئين من الجنوب والضاحية...الازدحام البشري المفضي إلى التزاحم على المرافق، فرشات الإسفنج المكدسة هنا وهناك، التلفزيون المفتوح 24 ساعة على قناتي الجزيرة والمنار، وجبات الطعام التي تأخذ عادة شكل "الإغاثة العاجلة"، قصص الغارات الإسرائيلية التي أكلت الأخضر واليابس، محاولات يائسة للتعرف عن الأماكن المستهدفة وتفحص الوجود والأسماء بحثا عن صديق أو قريب من بين الضحايا.

هكذا هي حالنا منذ أسبوعين، قلق على من تبقى من الأهل والأصدقاء تحت مرمى النيران والقنابل الذكية والغبية...نوبات بكاء بين الحين والآخر مضبوطة على إيقاع المجازر المتنقلة من بيروت وضاحيتها الجنوبية إلى صور وبعلبك وبنت جبيل والنبطية ومروحين، وقليل من الفرح المتأتي عن لقاء الأهل بعد طول غياب.

بيد أن صبيحة الأمس، كانت مختلفة تماما...استيقظنا على هول المجزرة الأبشع في قانا، وتابعنا على الهواء مباشرة الأشلاء المتناثرة والعظام المحطمة لأطفال ونساء وشيوخ قضوا تحت ركام القصف المتأتي عن خمسين غارة جوية لأحدث الطائرات وأشد الأسلحة فتكا...أمس اختنقنا بروائح البارود والجثث والدماء المتخثرة على الوجوه، واستنشقنا مع أهالي قانا الغبار والأدخنة المنبعثة من فوهات المدافع والطائرات الإسرائيلية، لكأننا هناك نركض بين الجموع على غير هدى وفي كل اتجاه، نسينا للحظة أن بضع مئات من الكيلومترات تفصلنا عن جرحنا النازف في قانا.

بصقنا في وجه كل ناطق إسرائيلي حاول أن يقدم "تفسيره للمذبحة"، كدنا نقذف شاشة التلفاز بأحذيتنا ونحن نرى السيدة رايس تهبط عن سلم طائرتها في مطار تل أبيب، لعنا الأنظمة والحكام المتخاذلين...شتمنا أحزابنا وشعوبنا التي تتابع يومياتها بكل البرودة والبلادة، لكأأن شيئا لم يحدث في قانا ولبنان...بكينا مجتمعين وبالتناوب ونحن نستمع لبكاء عباس ناصر ورجال الإسعاف، مع كل جثة هامدة، جرى انتشالها بصعوبة جمّة من تحت الركام والأنقاض، كانت حتى لحظات قليل طفلا يضج بالحيوية والأمل.

حتى أطفالنا، أدركوا بحسهم الغريزي، بأن أمرا جللا قد وقع...لم يجرؤا على طلب الحليب والشاي، ولم يمارسوا طقوس "السماجة" الصباحية التي اعتادوا عليها...ترددت بعض الوقت: هل أسمح لهم بمشاهدة الصورة المروّعة للمذبحة، ليشاهدوا بأم أعينهم بعض ما اختزنته ذاكرة آبائهم وأجدادهم صور عن دير ياسين والسموع وليتحضروا لمعاركهم اللاحقة مع البرابرة والنازيين الجدد... أم أبقيهم خارج دائرة النار والموت والطفولة الممزقة بصواريخ واشنطن الذكية في اصطياد الأطفال في ملاجئهم؟...نجحت لبعض الوقت في إبعادهم عن صور الموت والخراب، بيد أن الهستيريا التي ضربت كل من في قانا من مراسلين ورجال إطفاء وبقايا مواطنين مذهولين، امتدت لتضربنا نحن المتسمرين أمام الجزيرة وحول "ركوة القهوة ومنفضة السجائر".

لم نشعر بالقهر والانسحاق كعادتنا، فنحن هذه المرة، ولأول مرة، نضرب ونُضرب، نحن نتألم وهم يتألمون فـ"إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ"... لم يساورنا الشك، بأن "ما بعد ما بعد حيفا" آت لا ريب فيه...وأن "قانا – 2" ستكون خاتمة الأحزان وبداية نهاية الحرب وحكومة أولمرت، ألم تكن "قانا -1" بداية نهاية حرب -96 ومعها حكومة الإرهابي شمعون بيريز.