لم تنجح اسرائيل بآلتها العسكرية "الجبارة" في تفكيك "حزب الله" ومقاومته الشرسة منذ اندلاع الحرب على لبنان في 12 تموز الماضي. كان ذلك هدفاً رئيسياً لها. ولم تنجح في القضاء على ترسانته الصاروخية الكبيرة جدا رغم آلاف الغارات الجوية لسلاح طيرانها الحربي وكذلك الاسناد الكثيف لمدفعيتها البرية والبحرية. ولم تنجح، حتى الآن على الاقل في اقصاء مقاتلي الحزب وصواريخه عن الحدود اللبنانية معها حماية لمناطقها، سواء عبر الغارات الجوية والمدفعية المتنوعة او عبر محاولات "الاجتياح" الفاشلة والمكلفة وإن المحدودة. والاهم من ذلك كله، لم تنجح في ضرب معنويات مقاتلي الحزب وتاليا في كسر ارادة المقاومة عندهم حتى الاستشهاد. ازاء ذلك كله حاولت اسرائيل اثارة اللبنانيين على "حزب الله" واستغلال الخلافات المعروفة بينه وبين جهات لبنانية عدة حول سلاح المقاومة ومستقبله ومصيره وارتباطاته الاقليمية التي تجعل لبنان ساحة لتسوية صراعات اقليمية – دولية او لاقامة "توازنات اقليمية – دولية" جديدة والتي تجعله يدفع في النهاية اثمان التسوية او التوازن، وكلها باهظة، وحول تعطيله قيام الدولة المسؤولة عن كل مواطنيها والسيدة على ارضها والمالكة قرار السلم والحرب. لكن هذا النوع من المحاولات فشل بدوره، الامر الذي وضع اسرائيل في موقع من اثنين. الاول، قبول فكرة الانهزام امام حزب وحتى امام طائفة وإن مدعومين من جهتين اقليميتين، احداهما عظمى، وتالياً قبول اي تسوية يقررها المجتمع الدولي تحفظ لها ماء الوجه وتسمح لها بدرس ما جرى واستيعابه والاعداد لجولة اخرى مستقبلا تتمنى ان تكون فاصلة وحاسمة. والثاني الهرب الى الامام، سواء عبر توسيع الحرب الدائرة باجتياح بري محدود لنهر الليطاني مثلا، او اوسع من ذلك، او عبر توريط جهات اقليمية اخرى فيها مباشرة اولاها سوريا وثانيتها ايران الاسلامية وكذلك المجتمع الدولي وتحديدا زعيمته الولايات المتحدة. والوضعان غير مفيدين لاسرائيل. ذلك ان الاول يكشف امام شعب اسرائيل الحقائق التي حاول اخفاءها او التي تعامى عنها بسبب تاريخه المنتصر على العرب منذ 1948 وتفوقه عليهم على الساحة الدولية وابرزها انهم "قابلون" للانكسار او الانهزام، وإن جزئيا، في ظل ميزان القوى الاقليمي والدولي الراهن. كما ان الثاني يُدخل المنطقة في دوامة من العنف والتغيير العنفي وقد يحولها لاحقا بثرواتها وشعوبها "المؤمنة" بالنصر والمستعدة للإستشهاد بانظمتها الطالعة من صفوف هذه الشعوب، خطراً كبيراً على اسرائيل بل مصيرياً وإن على المدى البعيد.
كيف تواجه اسرائيل الموقف الصعب المشار اليه؟
وهل لا تزال تملك الوقت لمواجهة كهذه، وخصوصا بعد مجزرة قانا التي اعادت ترتيب اولويات معظم المجتمع الدولي، باستثناء اميركا طبعا، بحيث صار وقف النار هو الامر الاكثر الحاحا وان مع التمسك بضرورة التوصل الى تسوية ثابتة تعالج جذور المشكلة وتحول دون تسببها بحرب جديدة او بحروب؟
لديها الوقت الذي يبدو انها لا تزال تملكه. فرئيس حكومتها ابلغ الى واشنطن عبر وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ان جيشه يحتاج من 10 ايام الى 14 يوما لانجاز "مهمته" في الجنوب او في لبنان. والادارة الاميركية تبدو موافقة على طلبه باصرارها على ربط وقف النار بتسوية تعالج جذور المشكلة، رغم ادراكها ان وقف النار صار ضرورياً. ومن شأن هذا الموقف جعل المشاورات الدائرة في مجلس الامن منذ الاحد الماضي جدية، ولكن غير حاسمة وفي الوقت نفسه اعطاء اسرائيل الوقت للقيام بما لم تنجح في القيام به حتى الآن، او على الاقل في المحاولة. وقد لا يكون في وسع مجلس الامن التدخّل الحاسم سريعا الا اذا وجد ان الحرب الاسرائيلية صارت تشكّل خطرا اقليميا داهماً غير مطلوب في هذه المرحلة، او الا اذا توصل مع الجهات الاقليمية الداعمة "حزب الله" الى تفاهم ما مباشر او غير مباشر. وذلك كله يعني ان امام حكومة ايهود اولمرت اسبوعا للعمل وربما اكثر، ويعني ايضا ان مجزرة قانا الثانية لم تحقق ما حققته مجزرتها الاولى التي فرضت على العالم التدخل الفوري لوقف نار ولتسوية استمرت نحو اربع سنوات.
فهل يحتاج العالم الى مجزرة اكبر ليتحرك؟
وهل يعرف العالم ان استهداف مدنيي قانا كان خطأ او متعمدا؟
وهل يعرف اذا كانت اسرائيل تريد عبر قانا ومثيلات لها سابقة واخرى قد تكون لاحقة افراغ الجنوب من سكانه كي تتحرك عسكريا فيه بحرية؟
والجواب ان لا احد يعرف اي شيء عن ذلك كله.
تبقى الطريقة التي تواجه بها اسرائيل الموقف الصعب الراهن. وهي صارت معروفة، اي مزيجاً من العمل العسكري والتساهل الدولي. لكن المقلق هو استمرارها في محاولة تحقيق نصر غير مباشر بواسطة الداخل اللبناني، رغم فشلها سابقا. لكن هذه المحاولة، في حال تكرارها ستفشل ايضا، او هذا ما نأمل فيه لان اللبنانيين الذين اكتووا بنار الحروب الاهلية وغير الاهلية نيفا و15 سنة يجاهدون لعدم الوقوع فيها من جديد، ولأن "الشعوب" اللبنانية لن تنقلب على "حزب الله" تلافيا لحرب اهلية مدمّرة للجميع. ولان جمهور هذا الحزب، وتاليا طائفته، يدركان ان الانقلاب عليه يعني ايقاعه في الخسارة، وان هذه الخسارة ستطولها وجودا ودورا وفاعلية في لبنان. وهذا ما لن تقدم عليه طائعة مختارة.
في النهاية لم تقدّم اسرائيل يوما اغراء فعليا لاعدائها يسهل انقلابهم على قياداتهم التي تحاربها. ففي الموضوع الفلسطيني لم يقدم المسؤولون الاسرائيليون يوما الى شعب فلسطين الذي يضغطون عليه بالغارات والقتل والسجن، تسوية مقبولة انطلاقا من قرارات مجلس الامن. واستمروا يحاولون تقليص رقعة الدولة الفلسطينية بالاستيطان والقضم. وساهموا في اضعاف قياداته المعتدلة، رغم اخطائها المعروفة. اما في الموضوع اللبناني ورغم اختلافه عن الموضوع الفلسطيني في نواح عدة، فان سياسة القوة وممارستها بغطرسة ومن دون رحمة لا تترك في قلوب اللبنانيين، وخصوصا المقاتلين وجمهورهم، الا الحقد والكراهية والتصميم على القتال والتضحية. علما ان غرور القوة لا يقتصر فقط على اسرائيل. وعلما ايضا ان الاخيرة تنجح فقط اذا حاول الحزب، بعد وقف النار، توظيف "النصر" الناجم عن منع الانهزام لمنع قيام الدولة الراعية للجميع والحامية لهم وللاحتفاظ بسلاحه وبقرار استعماله تنفيذا لسياسته واستراتيجيته اللتين لن يقتنع لبنانيون كثيرون ان البعد الاقليمي المعروف غير بعيد عنها.