ثمة ظاهرة أوروبية، وضعتنا ظروف شراكتنا مع الأوروبيين في ضفاف البحر الأبيض المتوسط، في موقع المراتب المميز لها، هي ظاهرة الصراع في القرارات السياسية الأوروبية الكبرى بين سلم القيم الاخلاقية ومقتضيات الانتهازية المصلحية. ولا يحتاج المرء، لرصد هذه الظاهرة وتلمس ملامحها، الى بذل جهد بحثي أكاديمي، يكفيه لذلك المقارنة، في سياق الازمات السياسية في العقود الثلاثة الأخيرة المقارنة البسيطة بين مواقف هيئات المجتمع المدني في الدول الاوروبية الأساسية (وحتى الصغيرة)، وبين قرارات القيادات السياسية في تلك الدول.
في بداية كل أزمة (وأعني هنا الأزمات ذات العلاقة بمنطقتنا العربية)، يحاول المسؤولون السياسيون الأوروبيون التوفيق والتنسيق والموازاة بين القيم الأخلاقية، التي تباهي أوروبا شعوب العالم برفع رايتها، وبين مصالحها في الاطارين الاقليمي والدولي.
لكن مع اشتداد الأزمة، سرعان ما نكتشف ان التوفيق والتنسيق هذين، لا يعدو كونهما ألاعيب لفظية، برعت فيها الدوائر السياسية الأوروبية براعة تحسد عليها، سرعان ما تتراجع فيها القيم الاخلاقية تراجعا كاملا أمام الانتهازية التي تتطلبها مراعاة المصالح، في عصر تحكمه منذ مدة الامبراطورية الاميركية الجبارة.
لنأخذ مثلا مواقف الدول الاوروبية الرئيسية من القرار الاميركي بغزو العراق.
فمنذ بداية الأزمة، كانت الدوائر الأوروبية العليا تعرف ان الحجج التي تتذرع بها واشنطن تمهيدا لغزو العراق ليس لها أي أساس بمعايير القانون الدولي، لذلك حاولت قدر الامكان الضغط لربط اي تحرك اميركي في العراق، بقرار من مجلس الأمن. وكان هذا الموقف ذروة التوفيق العملي بين القيم الاخلاقية والمصالح الدولية. وكانت القيادات السياسية الاوروبية في هذا الموقف، على انسجام تام مع مجتمعاتها الأهلية، التي كانت قد بدأت تعبر عن موقفها المناهض للمطامع الأميركية غير المبررة.
لكن إصرار الدوائر الحاكمة في واشنطن على تنفيذ مخططها الذي ثبت في ما بعد انه كان معدا من قبل أحداث الحادي عشر من أيلول، حتى بدأ الموقف الأوروبي بالتراجع، تحت دخان الصياغات البلاغية الشكلية، الى ان أصبح الدور الاوروبي في مرحلة الفرجة المحايدة أولا، ثم تجاوزها الى مرحلة الالتحاق بالموقف الاميركي، الذي ضرب عرض الحائط بمؤسسات الأمم المتحدة كلها، في موقف استعلاء امبراطوري فظ، رغم ان تظاهرات الاحتجاج التي كانت المجتمعات الاوروبية تواصلها، قد بلغت ذروة التناقض الصريح مع هذا الموقف.
أما في ما يتعلق بالأزمة الراهنة بين اسرائيل ولبنان، بل بين اسرائيل والأمة العربية بأسرها، فان شركاءنا في الضفاف الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، يعرفون أنهم أنهوا علاقتهم الاستعمارية القديمة بمنطقتنا العربية بهديتهم المسمومة التي صوروا لنا فيها مشكلتهم التاريخية العنصرية ضد اليهود الأوروبيين. وهي مشكلة تعود الى قرون طويلة خلت، حتى اننا نجد لها تعبيرات صريحة في الأدب الكلاسيكي الأوروبي.
ومع ذلك، وبدلا من ان يتجه الاوروبيون الى فرض حل عادل لهذه المعضلة التي ادخلوا فيها المنطقة العربية بأسرها، حتى أصبح تفاقهما يهدد السلام العالمي برمته، فيحققوا بذلك أروع تصفية تاريخية عادلة واخلاقية مع إرثهم الاستعماري البشع في منطقتنا العربية، إذا بهم، في عصر التماهي الاميركي الصهيوني في اسرائيل، يعاودون لعبة التذبذب الاحتيالي بين القيم الأخلاقية التي ما فتئوا يتباهون باطلاقها في العالم كله منذ عصر الثورة الفرنسية، وبين مسايرة اسرائيل، حتى وهي في ذروة عدوانيتها الوحشية اللاأخلاقية واللاإنسانية، لا لسبب، الا لأنهم لا يريدون تحمل تبعات اغضاب الامبراطور الاميركي، واحتمالات انعكاس هذا الغضب الامبراطوري على مصالحهم.
ومن يتابع من جهة تحركات المجتمعات المدنية الاوروبية في مختلف دول الاتحاد الاوروبي، فقد يجد لها صدى لدى بعض اصحاب الضمائر الحرة من المثقفين والاعلاميين الاوروبيين، بل بعض السياسيين الهامشيين أحيانا. أما اذا انتقل الى تتبع المواقف الفعلية للقيادات السياسية، التي تؤثر على مجرى الازمة في ميدان الصراع، فانه يكتشف مرة اخرى، تلك البراعة الاوروبية الاحتيالية، في التذبذب بين القيم الأخلاقية والانتهازية المصلحية، مع ملاحظة ان القيم الاخلاقية لا يتم التعبير عنها الا في البيانات الانشائية البلاغية، أما المواقف السياسية المؤثرة، فخاضعة بالكامل لمنطليات الانتهازية السياسية.
وذروة الامتحان في هذه المسألة، موجودة في المواقف السياسية الاخلاقية، في محاولات ايجاد تسوية عادلة للمشكلة التي صدرتها اوروبا لنا، مشكلة حل تراكم العنصرية الاوروبية ضد اليهود بتسميم المنطقة العربية قرونا طويلة قادمة.