عندما اختلفت فرنسا مع الولايات المتحدة حول مسألة شنّ الحرب على العراق بقرار من مجلس الأمن، تجلى الخلاف على الطريقة الأميركية بأن راحت كافيتيريا الكونغرس تسمّي شرائح البطاطس المقلية، <فريدوم فرايز>، مقالي الحرية، بدلاً من اسمها المعروف <فرنش فرايز>، أي مقالي فرنسية. كان ذلك تعبيراً مصيرياً عن خلاف مصيري.
يبدو للعين المدرّبة أن الفرق بين الاقتراح الفرنسي والاقتراح الأميركي لحل <أزمة لبنان>، هكذا بات يسمّى العدوان الإسرائيلي وحرب إسرائيل على لبنان، هو كالفرق بين حزب العمل و<الليكود> أو <كاديما> حالياً. ويكرر بعض الأخوة من صحافيين لبنانيين وغير لبنانيين في الصحافة العائدة إلى ملكية واحدة، بوعي ومن دون وعي، أن جوهر المشكلة هو سلاح حزب الله.
إذا كان هذا هو جوهر المشكلة، فهذا ما تنطلق منه المبادرتان فعلاً، وهذا ما ترغبان بحله. أما إذا كانت المشكلة هي العدوان الهمجي الوحشي البربري ووقف النزيف الناجم عن عملية قتل مجتمع بأسره، فإن الأساس هو وقف الحرب، وقف إطلاق النار، وقف المجازر. أما ما تبقّى من <قضايا جوهرية> فيفترض أنها ليست قضايا للتسوية مع إسرائيل.
وفعلاً لن تجد إسرائيل مَن تفاوضه في لبنان لا حول سلاح حزب الله، ولا حول القطاع العازل، ولا حول القوة المتعدّدة الجنسيات التي لا يخطط أن تحلّ محلّ قوات الطوارئ فحسب، بل يُعمد إليها تنفيذ قرار 1559 بشقه اللبناني، أي بنزع سلاح المقاومة، وتكلّف بتأمين تنفيذه أيضاً بسدّ الحدود بين سوريا ولبنان وحراستها ومراقبتها. بحيث تحرس دول أجنبية الحدود بين دولة عربية وأخرى. ويُعفى الجيش اللبناني من تنفيذ المهمة أو تتمّ <معاونته> على القيام بها. وتستريح طاولة الحوار، وتستقيل الوحدة الوطنية، أو تحال الى التقاعد. ولا يجري لهذا الغرض توقيع 17 أيار جديد ولا أي اتفاق إسرائيلي لبناني، بل قرار مجلس أمن إجباري بموجب البند السابع يوفد قوة دولية متعددة الجنسيات لتنفيذه بالقوة إذا لزم، ولحفظ الاستقرار.
هذه كلها طبعاً شروط. في حين أن المطلوب هو وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار. وهذه ليست لعبة عضّ أصابع بالضبط يخسر فيها من يصرخ <آخ> أولاً، بل هي موافقة من دون آخ، أي موافقة من لا تُعضّ أصابعهم، على استخدام العدوان الإسرائيلي وجرائم قتل المدنيين بالجملة، وتفليت وتسليط الوحش الإسرائيلي البربري يدوس الضيع والقرى والبلدات بقدمه
الهمجية، لتغيير سياسي في لبنان، وفي حسم مسائل تشغلهم.
القرار الفرنسي يبدو كأنه يسبق وقف إطلاق النار على تنفيذ الشروط ويعطيه الأولوية. ولكن فقط من حيث تسلسل التنفيذ الزمني. ولكن شروط وقف إطلاق النار ستكون كلها على الورقة نفسها، وسوف يصوّت عليها جميعاً في رزمة واحدة، أو يتمّ الاتفاق عليها قبل وقف إطلاق النار. هذا ليس وقفاً غير مشروطٍ لإطلاق النار. ولذلك جاء وزير خارجية فرنسا ليقنع المسؤولين اللبنانيين بالتنازل عن الموقف الذي تمّ تبنيه من قبل الحكومة بعد مذبحة قانا وهو الوقف الفوري وغير المشروط لإطلاق النار لمصلحة بدأ التفاوض على اقتراحات تمسّ <القضايا الجوهرية> بما فيها الاقتراح الفرنسي. وهذا يعني وقف إطلاق النار تليه عملية تسليم الجنود الإسرائيليين، يليه تشكيل القوة، يليه... إلى نهاية هذه الشروط. ويشمل حل قضية مزارع شبعا متقاطعاً في هذه الناحية مع اقتراحات الحكومة اللبنانية، لكي تصلح مقدمة لحديث أكثر جدية حول نزع سلاح حزب الله. هذه صياغة تنقذ ماء وجه من تحرص عليهم فرنسا، بشكل خاص في لبنان، من الاضطرار للتساوق المستحيل والعصي على الفهم مع الاقتراحات الأميركية الإسرائيلية بصيغتها الحالية. وتطرح هذه أن يبدأ تنفيذ <الحل الشامل> على الأقل على مستوى تشكيل قوة متعدّدة الجنسيات مع الاستمرار في إطلاق النار.
وبإطلاق نار ومن دون إطلاق نار من غير الممكن الحديث اليوم عن تشكيل قوة متعددة الجنسيات بهذه المهام من دون أن تعتبرها المقاومة قوة احتلال. ما هي المصلحة الدولية في ذلك؟ مَن هي الدولة التي سوف ترسل في مثل هذه الحالة جنوداً؟ ولأي غرض؟
هنالك خلاف في لبنان. هذا واضح. ولكن ليس من مصلحة المقاومة إثارة هذا الخلاف، ومن مصلحتها حتى إسكاته أو تجاهله عندما يثيره غيرها لغرض الحفاظ على الوحدة الوطنية في وجه عدوان غاشم. كما أن المصالح التقت بعد قانا عند طلب الوقف الفوري وغير المشروط لإطلاق النار، وكل ما عدا ذلك يبحث في لبنان داخلياً، وليس في مجلس الأمن، حسب رأي المقاومة، أو يبحث ويقرّ دولياً أيضاً حسب رأي الحكومة اللبنانية الذي يُجمع الجميع، وفي الحالتين يتمّ البحث بعد وقف إطلاق النار. والأمل أن هذا موقف سياسي موحّد وسيادي، وليس <لكل مقام مقال>.
ما يمكن التسامح معه في ظل ما يجري هو توسيع قوة الطوارئ الدولية. أولاً لأنها أصلاً قائمة، وثانياً لأنه يصحّ الادعاء أن مثل هذا التوسيع لا يشكل شرطاً جديداً تتمّ الموافقة عليه في ظل المذابح والتدمير.
الشروط الأميركية والتعديلات الفرنسية إذن في مأزق وطريق مسدود. وملجأهم هو في النهاية مجلس الأمن، لأنه قد يقرّر بغض النظر عن الوقائع على الأرض، من ناحية وجود أو غياب الإنجازات العسكرية الإسرائيلية. وبإمكان إسرائيل أن تعتبر قراراً دولياً يتضمن شروطها بحد ذاته إنجازاً ينزلها عن الشجرة، حتى لو رفضته المقاومة. ولكن تنفيذ القرار سيعود ويصطدم بالوقائع على الأرض. ولذلك سوف تناقش المؤسسة الإسرائيلية هل تتوقف مع إنجاز قرار، أم تواصل على أن يبدأ تنفيذه على الأقل بضمانات أميركية تقنع الجمهور الإسرائيلي أنه تمّ تحقيق إنجاز؟
الأغلب أن تواصل إسرائيل حملتها العسكرية بغضّ النظر عن القرار، لكي تنجز ما تعتبره هي إضعافاً للمقاومة، وإنهاكاً للمجتمع اللبناني في هذه الأثناء، وذلك لهدفين: أولاً، تسهيل المهمة على القوات الدولية، بحيث يبعد الجيش الإسرائيلي مواقع المقاومة شمالاً بنيرانه مثل جرافة تسير وتمهّد الطريق قبل دخول القوة الدولية، وبحيث تأتي إلى بلد تعب يريد استقبالها، وثانياً، حتى تعلو أصوات داعية للالتزام بقرارات مجلس الأمن. على كل حال هذا ما لا يحسمه النقاش بل تحسمه المقاومة والقتال على الأرض.
ما نعرفه حالياً، مثل وعي قبلي سابق على التجربة هو أن ذاكرة النظام الرسمي العربي، كما هو معروف، سريعة الذوبان، وينسى بسرعة أن مجلس الأمن رفض القيام بواجبه ألا وهو حفظ السلام والأمن الدوليين، ولم يدعُ لوقف إطلاق النار، أي لم يدع لوقف المذابح. وقد يدعو النظام الرسمي العربي السريع الذوبان إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن المقبلة والتي ستمليها أميركا بمرونة بين الاقتراح الفرنسي والأميركي، لكي لا <تعطى إسرائيل حجة لعدم تنفيذ القرارات التي يجب أن تنفذها>. وكأن إسرائيل احتاجت إلى حجج حتى الآن. لن تحرج إسرائيل من قبول العرب بقرارات المجلس المقبلة والمطبوخة سلفاً مثل سلفها ,1559 بل بالعكس، سوف تستمرّ بالتمييز بين قرارات بموجب البند السابع تتخذ ضد العرب وقرارات ملزمة دون إلزام، كما في حالة القرارات ضد إسرائيل. فما ألزم إسرائيل بتنفيذ القرار 425 هو ليس البند السابع طبعاً، بل المقاومة اللبنانية. وضد المقاومة اللبنانية تطبخ حالياً القرارات حسب البند السابع، لكي لا يبقى في هذه المنطقة ما يلزم أن يحرج إسرائيل ومن وراءها أميركا، ومن يحتمي بهما.