منذ وصولي إلى دوحة العرب في قطر، وانا أتابع صحفها الثلاث، الراية، الشرق، الوطن ، وكمواطن عربي تشدني بعض الصفحات دون غيرها، لا كرهاً بالأخريات منها، بل لأن موضوعاتها المطروحة، تعنيني وتروقني، كونها تتناول ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ولدى صحيفة الوطن الغراء مثل هذه الصفحات التي تفتح ذراعيها وقلبها، مرحبة بالكلمة المسؤولة، المعربة عن نبض الوطن من المحيط إلى الخليج، هذا الوطن الذي توجت صحيفة الوطن بصوره صفحتها الأولى من كل عدد.

وقد أردت اليوم أن أدلي بدلوي بين دلاء لكتاب كرام، كي أعبر عما أفكر وأؤمن، وأن أبين ما يجيش بصدري إزاء ما نواجهه في لبنان الصابر الصامد، وفي فلسطين الأبية السليبة، وفي العراق الجريح المقاوم، وإزاء ما تواجهه دمشق من ضغوط ومؤامرات، وهي تأبى أن تستكين أو تركع لتلك المؤامرات التي توقعنا في شباكها، وشرور أهدافها، البلد تلو الآخر، ضمن مسلسل قضم، واستقصاء عنصري بغيض، لم يشهد له تاريخ الإنسانية مثيلا.

فبعد ان كان وطننا واحداً كبيراً لشعبنا، أصبح أقاليم عديدة لشعوبنا، أقاليم تجد نفسها أسيرة قيود وحدود مصطنعة، ومصالح متباينة، وأهداف متناقضة، وضعت الأخ في مواجهة أخية، والمقدرات في خدمة بوسنا وضعفنا، بدلاً من أن تكون في خدمة قوتنا وسعادتنا وازدهارنا، وتطورنا العلمي والتقني.

لم يكتف «الطاغوت» بما فعل، بل زرع في سويداء قلب الوطن بذرة غير حميدة، تأتي على أخضرنا ويابسنا، وعلى حجرنا وشجرنا، وبشرنا، وعلى فجنا ويانعنا، وعلى ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، هذه الترعة الاستقصائية التي تواجهنا، تنخر في داخلنا وخارجنا، مستهدفة وعينا وذاتنا وقيمنا، ورسالتنا، آملة ان نفقد البوصلة، ونحن ننشد الهدف.

غير ان الممانعة الصلبة، والمواقف المبدئية والوطنية الصادقة، التي تعبر عن حقيقة هذه الأمة، تبعث الأمل، وتعزز المنعة والممانعة، وتسقط الكثير من مراميهم ومؤامراتهم، تلك المواقف والممانعة التي لا تقاس بحجم دولة ولا بعدد سكان، ولا بإمكانات فائقة، بل تقاس، بصدق الموقف، ووضوح الرؤية، والايمان بالهدف الاستراتيجي.

ان سوريا تبقى في عين الحدث والصمود والممانعة ولانها كذلك يحاولون محاصرتها ويتآمرون عليها واتهامها بدعم الارهاب وهي التي تواجهه، يحاولون الايقاع بها وهي التي تتصدى لافشالهم، هذا البلد الذي وقف ويقف الى جانب لبنان في المحن التي تعرض لها وهو يبذل الجهد والمال والدماء منذ عام 1976 وحتى يومنا هذا، لقد واجه لبنان اسرائيل عام 1982 ويواجهها اليوم بعد 24 عاما ويواجه نفس آلة الدمار والتدمير ونفس القوى المعتدية عبر «سيناريو جديد» يخلط الاوراق في المنطقة ويكشف عناصر جديدة يدفع بها هذه المرة الى الساحة وهي تظن نفسها بأنها غير مكشوفة للشعب منذ ان تسترت، انهم يدمرون لبنان الذي يزعمون الغيرة على ديمقراطيته وسيادته واستقلاله ويريدون اقناع شعبه واقناعنا ان ما يقومون به كله من اجل جعله درة شرقهم الاوسط الجديد الذي يحلمون بإنجازه في منطقتنا، ان الحقيقة الساطعة تتمثل في رفضهم لبنان الذي لا يركع والذي يقاوم وينتصر، لبنان الذي لا يوقع ولا ينفد والذي لا يقبل ان يكون ساحة انطلاق لمخططاتهم، انهم يريدون لبنان المجرد من سلاحه وكرامته بل يريدون شعبا عربيا صاغرا يتلقى دون ان يلقي، يستهلك دون ان يبدع ويستورد دون ان يصدر يريدون شعبا طيعا ينفذ ولا يفكر انهم يريدون امة كالقطيع لا علماء لها ولا قادة ولا حول ولا قوة، انهم يحاسبون لبنان اليوم باستهداف شعبه وحضارته وانتمائه وموقفه لانهم رسموا منذ هزيمتهم امامه نهاية القرن العشرين، ان لبنان هذا يجب محاسبته ويستحق العقاب والتربية القاسية والاحتواء النهائي، بعد ذلك كله يسأل الوطن والمواطن ماذا يريد هؤلاء من لبنان وفلسطين وسوريا والعراق؟ ان الاجابة الحقيقية تتمثل في قبول مطالب عدة يرفضها المواطن والوطن وهو يعلم انه لو قبلها لكانت دوله صديقة وحليفة لهم وأولى برعايتهم، هذه المطالب التي نشير الى بعضها فيما يلي:

المطلب الأول:

ــ القبول بمشروع الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد حاليا وعدم الوقوف في وجهه أو عرقلته، والقبول بتصفية القضية الفلسطينية، وتفكيك بعض الدول العربية التي تشكل خطرا على إسرائيل والمصالح الاستراتيجية الأميركية وحتى الأوروبية.

المطلب الثاني:

ــ تحجيم الدور العربي السوري، وقصره على الشأن السوري فقط، وعدم تجاوز اطاره القُطري، خاصة فيما يتعلق بفلسطين، والعراق ولبنان وغيرها، وهذا يعني عزل سوريا عن محيطها العربي، والاقليمي والعالمي ونسف جوهر ثوابتها الوطنية والقومية هذا العزل بأهدافه الثلاثة، المتقدم ذكرها إذا ما تحقق سوف يكون سلاحا مشهرا في وجه أي وقفة حق او عدل او مقاومة او ممانعة، يمكن ان يقفها بلد عربي آخر.

ــ ويأتي موقف قطر الأخير في اجتماع القاهرة خير مثال في هذا السياق، كونه عبر عن وقفة وطنية قومية، مساندة لشعب يدمر ويعتدى عليه، هذا الموقف لن يكون مقبولا، حسب رؤيتهم مستقبلا، وقد تحاسب عليه، أو تمنع من ممارسته، وبذلك يتم دفن الطموح والحلم العربي في الوحدة، وهنا بيت القصيد، في خلفية التدمير الصهيوني ــ الأميركي للبنان الشقيق.

المطلب الثالث:

ــ تحويل سوريا الى أداة مطيعة من حيث اسهامها في التصدي للجانب المقاوم في الأمة العربية، تحت ذريعة اتهامه بالارهاب الذي يهدد السلم والأمن الدوليين، وهذا يعني مشاركة سوريا في التصدي لشعب العراق المقاوم، وللمقاومة اللبنانية الباسلة، وكشف الساحة اللبنانية، أمنيا وعسكريا ليسهل عليهم تحويلها الى منصة اطلاق، وانطلاق للعدوان والتآمر على طريق بناء امبراطورية مزعومة.

المطلب الرابع:

 اجبار لبنان وسوريا للدخول في عملية تسوية بشروطهم وتحويلهما الى اداة مجندة في مخططهم وسلب سوريا بشكل خاص لدورها الإقليمي والدولي في المنطقة وتحويلها الى كرة في ملعب السياسة الإقليمية والدولية مما يفقد الساحة العربية أحد أهم اقطارها المؤثرة بعمق في صنع القرار العربي والإقليمي.

المطلب الخامس:

 ارغام سوريا ولبنان على تبني أفكار تتساوق وأفكارهم وشطب أفكار تتناقض ومخططاتهم وتغييب قيم ومثل لا تتماشى مع معتقداتهم الايديولوجية، مما يؤدي الى تغيير عقيدة أجيالنا (القومية والفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية وحتى الاقتصادية) واستهداف تاريخ أمتنا.

 وهذا يعني تسطيح المنهج الفكري في المدارس والجامعات والمعاهد ويعني أيضا نسف الأسس المتبعة في التوجيه والإرشاد الديني لمؤمنينا في (جوامعنا، وكنائسنا، وهم لا يتورعون في الاخذ والمطالبة، وحتى أنهم يتطلعون الى تغييب نصوص من معتقداتنا التي أنزلها الله، على أنبيائه، وإلا بماذا نفسر استهدافهم للعروبة والإسلام؟.

 وعلى هدى منظورهم هذا يجهدون لايقاظ الظواهر المرضية النائمة أو حتى الميتة في مجتمعنا، وينفثون ظواهر اجتماعية اضافية بقدومهم إلينا ليس رعاية لها ولا احتراما بل امعانا ورغبة بالتفتيت والتمزيف والتناحر مثل:

ايقاظ العشائرية والقبلية، وتحويل العشيرة الى عشائر والقبيلة الى قبائل مفتتين إياها إلى أفخاذ وفصائل متناحرة متنابذة رغم انحدارها من جذر واحد.

ايقاظ القوميات على أساس عنصري تقسيمي رغم أن القوميات في الوطن العربي تآخت وأصبح ما يجمعها أعمق وأعظم من الذي يفرقها، فهي تعيش على أرض طيبة واحدة ويعتنق أفرادها أديانا متآخية متحابة تعبد الإله الواحد الصمد وتدافع عن الوطن الواحد الأحد.

ايقاظ الطائفية بين ابناء الدين الواحد، وايقاظ الاثنيات داخل كل منها لتحقيق المزيد من التشرذم والتفتيت ليكون ضياع الأمة العربية والاسلامية في عالم العولمة الغاشمة أمرا محتما وفق عقيدتهم الاقصائية التي تقوم على الغاء الآخر.

من هنا تتوضح غاياتهم باستهداف المقاومة ومن يدعم المقاومة، من هنا يبدو بوضوح لماذا تستهدف سوريا، ويدمر لبنان، وتسحق بناه التحتية، ولماذا يقتل رئيس وزراء لبنان الشخصية السياسية العربية المعروفة وآخرين؟ ولماذا يغرقون لبنان في حالة فلتان أمني محسوب بعد خروج سوريا، ورمي شباك الاتهام بعشوائية مقصودة؟ ولماذا يعطل مجلس الأمن، ويستنزف ويستخدم السيد عنان؟ ولماذا يفشل مؤتمر روما؟ ولماذا تثار الطائفية، على ألسنة «كبارنا» الذين حذروا وخوفوا من (محاور الأهلة)؟ ويتناسون أن الهلال جزء لا يتجزأ من البدر العربي والاسلامي، ولا يمكن لمؤمن حقيقي يستخدم عقله الا ويقر ذلك، ولماذا تستهدف الديمقراطية الحقة في فلسطين والتي تمت برعايتهم واشرافهم؟

ان استهداف سوريا والمقاومة على الارض العربية له ما يبرره لديهم لأنها حالة نهوض عربية غير مقبولة بل مرفوضة وحداته من قبلهم لأنها تحول دون اهدافهم!

أخيرا وليس آخرا ألم يدرك المسؤول فينا كبيرا أم صغيرا، قويا أم ضعيفا، غنيا أم فقيرا، أن سياسة الأرض المحروقة في لبنان سياسة لحرق مقومات الأمة، المربع تلو الآخر وحتى الآن ها هو شعبنا في لبنان والعراق وفلسطين يشكل امثلة حية على سياسة الارض المحروقة المنفذة، من اصدقائنا الأميركيين!! والدولة التي تعمل جميعا لترويضها كي تصبح محبة للسلام وتحويلها الى عضو حميد في جسم المنطقة والعالم الا وهي اسرائيل!

ألم ندرك أن العالم الذي لا يملك ما نملك من مقومات تجمعه يتكتل وينسق ويتوحد بعكس ما نحن عليه من تفرق وتباين، واختلاف وتناحر في الوطن العربي الكبير.

ان لم ندرك هذا كله فكيف السبيل لبلوغ الادراك فهل فقدنا نعمة الرؤية أو نعمة اللمس أو نعمة الشم كي نستخدم نعمة الذوق والسمع؟.

وعندها لابد لنا من استدعاء روح العالم الفيزيائي بافلوف ليحضر صندوقه وكلبه وجرسه وقطعا من لحم يعين على تحقيق المنعكس الشرطي للفعل الاجرامي الذي يواجه امتنا في لبنان وفلسطين والعراق.