صبحي غندور*

راهنت إسرائيل، وأمامها الإدارة الأميركية، على جعل صورة حربهما على لبنان وكأنّها حرب على النفوذ الإيراني في لبنان والمنطقة، وبالتالي على إمكانيّة تجميع القوى والصفوف اللبنانية والعربية والدولية خلف هذا العدوان. فواشنطن نجحت في الأشهر الماضية في تعطيل المفاوضات الأوروبية/ الإيرانية وبنقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن. أيضاً، كانت واشنطن قد نجحت في استقطاب أوروبا إلى جانبها في كيفيّة التعامل مع "حركة حماس" بعد وصولها إلى السلطة الفلسطينية. وقبل هذا وذاك، نجحت واشنطن في إقامة حلف أميركي/فرنسي بشأن لبنان صنَعَ القرار 1559 ثمّ القرار 1680، وأقام تحالفاً من القوى اللبنانية الداعمة لهذين القرارين وما فيهما من استهدافٍ واضح لسلاح المقاومة اللبنانية وللعلاقات السورية/اللبنانية.
أيضاً شجّعت واشنطن على مناخٍ مذهبيٍّ حادٍّ في العراق وفي المنطقة العربية زاد الحديث فيه عن الدور الإيراني في الأحداث الدامية العراقية وفي تطوّرات مستقبل العراق .

إذن، الفِراش كان جاهزاً ليستلقيَ عليه العدوان العسكري الإسرائيلي المدعوم أميركياً. فالحرب هي على إيران وعلى نفوذها في بيروت ودمشق وغزّة، وليست على اللبنانيين والفلسطنيين والعرب. وطلبت واشنطن، واستجابت بعض الحكومات العربية، إصدار مواقف تُحمِّل إيران بشكلٍ غير مباشر مسؤولية التطورات السلبية في غزّة ولبنان والعراق.

وكانت المراهنة أولاً على صداماتٍ كبيرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة بين حركتيْ "فتح" و"حماس" فتُحقّق مثل هذه الحرب الأهلية الفلسطينية ما تسعى إليه إسرائيل وواشنطن من إنهاءٍ لسلاح المقاومة الفلسطينية، بعدما رفضت "حماس" إغراءات الاعتراف الأميركي والدولي بها إذا هي اعترفت بإسرائيل وأعلنت نبذ أسلوب الكفاح المسلّح، كما فعل ياسر عرفات من قبل من خلال توقيع اتفاق أوسلو، حيث انفتحت له آنذاك أبواب البيت الأبيض والمساعدات الخارجية، لكن باب حلّ القضية الفلسطينية بقي مغلقاً وبقي مفتاحه حكراً على إسرائيل وحدها!

أيضاً كانت المراهنات الأميركية على أنّ تفاعلات اغتيال رفيق الحريري وإخراج القوات السورية من لبنان ومطرقة القرار 1559، ستؤدّي جميعها كتطوّرات ضاغطة إلى تسليم "حزب الله" لسلاحة أو إلى صدامه مع "جبهة 14 آذار" وما تمثّله من أكثرية نيابيّة وحكومية. لكن الحرب الأهلية تحتاج إلى "فعل وردّة فعل" وإلى إشعال النَّار من طرفيْ الخيط، وهذا ما لم يحدث في الأشهر الماضية رغم كلّ المناخات السلبية، والفضل في ذلك يعود إلى إدراك "حزب الله" وأطراف لبنانية عديدة إلى ما هو مرغوبٌ به إسرائيلياً وأميركياً، وما هو مرفوضٌ لبنانياً.

وجاءت العملية العسكرية لحركة حماس في شهر حزيران/يونيو ضدّ الجنود الإسرائيليين، ثمّ العملية العسكرية لحزب الله في 12 تموز/يوليو في الشريط الحدودي اللبناني، وما نتج عن العمليتين من أسر جنود إسرائيليين لمقايضتهم بأسرى فلسطينيين ولبنانيين، بمثابة عذرٍ للانتقال بالمراهنات الأميركية/الإسرائيلية إلى حال التصعيد العسكري والحرب المفتوحة على غزّة ولبنان.

دون أيِّ شك، فإنَّ العمليين العسكريتين لحركة حماس وحزب الله، حقّقتا تنفيساً للاحتقانات الداخلية التي كانت موضع شحنٍ خارجي وتأزّمٍ داخلي لأشهر عديدة، وأعادتا الانتباه الداخلي إلى العدوِّ الحقيقي، لكنَّ ذلك كان أيضاً إيذاناً بانهيار المراهنات الأميركية/الإسرائيلية، وتعزيزاً جديداً لأسلوب المقاومة ضدَّ الاحتلال، وللعلاقة الخاصّة التي تربط المقاومة في لبنان وفلسطين بدمشق وطهران.

هي إذن حرب أميركية/إسرائيلية ضدَّ إيران شكلاً، لكنّها عملياً حرب على الأرض العربية لإنهاء أيّة مقاومة عربية مسلّحة للاحتلال الإسرائيلي، حربٌ تؤدّي إلى فرض التطبيع والعلاقات بين العرب وإسرائيل بغضّ النَّظر عن فشل التسوية السياسية للصراع وعن مصير القضية الفلسطينية والأراضي العربية المحتلّة.

واشنطن وتل أبيب، لجأتا إلى القوّة العسكرية بعدما فشلت المراهنات السياسية على الحروب الأهلية في لبنان وغزّة. وكان الهدف، وما يزال، هو عزل المقاومة عن الشعب، ثمّ عزل لبنان عن فلسطين، ثمّ عزلهما عن دمشق، ثمّ عزل العرب جميعهم عن طهران وجعل المنطقة العربية محميّةً أطلسية، والسيد الآمر فيها هو الحلف الأميركي الإسرائيلي..

هي شكلاً معركة واشنطن وتل أبيب مع طهران، لكنّها ضمناً هي معركة تركيع كامل للبلاد العربية بما عليها من حكومات وما فيها من شعوب ومنظمات..

لكنّ العدوان على لبنان، كما هو في تجارب الشعوب أينما كان، يهزم نفسه بنفسه، حيث تتحوّل قوّته العسكرية وجبروته وأساليب تدميره الوحشية إلى عوامل استنهاضٍ للشعوب، وإلى مزيدٍ من دعم حركات المقاومة، وإلى تعزيزٍ للوحدة الوطنية في مواجهة عدوٍّ ظالم. وتأتي النتائج السياسية للعدوان معاكسةً لأهداف القائمين به، بل يخسر المعتدي من كان معه ولو على استحياء، لصالح المزيد من المقاومين لعدوانه وأهدافه.

وسوف تكون من أبرز نتائج العدوان الإسرائيلي على لبنان ترسيخ الوحدة الوطنية اللبنانية التي كانت ولا تزال مستهدفةً من قِبَل إسرائيل منذ عقد الخمسينات من القرن الماضي.

وستخرج "الوطنية اللبنانية" منتصرةً وقويّة من هذه الحرب كما لم تكن عليه من قوّة طوال تاريخ لبنان. فلأوّل مرَّة يخوض لبنان حرب دفاعه عن نفسه بقوًى لبنانية، ودون وجود قوًى عسكرية غير لبنانية على أرضه.

هي الآن ربّما آخر حروب لبنان الداخلية والخارجية، فإذا أحسن اللبنانيون جميعهم التعامل معها ومع تطوّراتها وتداعياتها اليومية، كما هم يفعلون حتى الآن، فإنّهم سيحصدون وطناً حقيقياً لجميع أبنائه، وستكون الوطنية اللبنانية محصنَّةً ضدَّ كلِّ اختراقٍ خارجي في المستقبل، وستصبح "اللبننة" من جديد رمزاً لمقاومة الاحتلال والعدوان وللوحدة الوطنية الشعبية، ولتبقى بيروت عاصمة العرب والعروبة.

وحينما ينتصر لبنان، حكومةً وشعباً ومقاومة، سيكون الانتصار للقضية الفلسطينية وللحلّ العادل لها. وستضطرّ واشنطن، عاجلاً أم آجلاً، إلى إدراك خطأ سياساتها وحساباتها ومراهناتها، وإلى الرؤية السليمة لأسباب أزمات المنطقة: مشكلة الاحتلال الإسرائيلي والدعم الأميركي له.