نصر شمالي

يشنّ الإسرائيليون اليوم حرب دمار شامل ضدّ لبنان متذرعين بأسر المقاومة اللبنانية لجنديين إسرائيليين، غير أنه بدا واضحاً للجميع أن هذه الجولة التدميرية الشاملة الجديدة معدّة مسبقاً وجاهزة للتنفيذ في أية لحظة، وأنها كانت محملة على الخرائط كما يقول العسكريون، وسوف تشن بسبب أو من دون سبب، أي باختلاق سبب، وبالطبع لم يكن متوقعاً من المندوب الإسرائيلي في مجلس الأمن الدولي (30/7/2006) أن يصدر عنه غير ما صدر من فحيح الأفاعي، إثر مذبحة قانا الثانية!

إن الإسرائيليين يتذرعون اليوم بوجود فصائل المقاومة على الجبهة، وبعملياتها ضدّ الجيش الإسرائيلي والمستوطنات الصهيونية، ويزعمون أن حزب الله يخوض الحرب نيابة عن سورية وإيران وبدعم منهما! أما بالأمس، قبل ظهور حزب الله، فكانوا يتذرعون بوجود فصائل المقاومة الفلسطينية والوطنية اللبنانية على الجبهة، وبعملياتها ضدّ جيشهم ومستوطناتهم، ويزعمون أن الفلسطينيين واللبنانيين يخوضون الحرب نيابة عن الاتحاد السوفييتي وبدعم منه! غير أن مثل هذه الذرائع لم تنطلي على أحد، ولم تعد معتمدة إلا من قبل العدو الأميركي الصهيوني ومن قبل حلفائه، فمخططات تدمير العرب في جميع أوطانهم، تدميراً شاملاً، موضوعة قبل تأسيس الكيان الصهيوني الذي أقيم في معرض تنفيذ تلك المخططات، وقد كتبت ليفيا روكاش في دراستها ليوميات موشي شاريت، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، تقول: كان التعاون في الخمسينات وثيقاً جداً بين جهاز الخدمات الخاصة الإسرائيلي وبين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ومن المؤكد، وليس من قبيل المصادفة، أن الولايات المتحدة زوّدت البعض في لبنان بالأسلحة، إبان الخمسينات، في إطار سياستها لاستخدام الأقليات الدينية، وبعد تحديد معالم خطط تمزيق لبنان على أيدي الصهاينة!

فشل تجربة الرائد الدمية!

في بدايات عقد الخمسينات من القرن الماضي، لم تكن توجد في لبنان مقاومة فلسطينية، ولا قوات سورية، بل لم تكن توجد مقاومة لبنانية شعبية على الإطلاق، ولكن في 16 أيار/ مايو 1954، أثناء اجتماع مشترك بين كبار مسؤولي وزارتي الدفاع والخارجية الإسرائيليتين، أثار ديفيد بن غوريون مرة ثانية الطلب: بأن تفعل "إسرائيل" شيئاً ما تجاه لبنان!

يقول موشي شاريت، رئيس الوزراء حينئذ، في يومياته: لقد أصرّ بن غوريون على أن الوقت مناسب للعمل ضدّ لبنان، بسبب التوترات المتجدّدة بين سورية والعراق، وبسبب المشاكل الداخلية في سورية (خلال عهد الشيشكلي) بينما عبّر الجنرال موشي دايان رئيس الأركان عن دعمه المتحمّس لبن غوريون، بقوله: إن الشيء الهام الوحيد هو إيجاد ضابط (لبناني) ولو برتبة رائد، وسوف نقوم بكسب ودّه أو بشرائه بالمال لنجعله يوافق على إعلان نفسه كمنقذ ومخلّص، ثم سوف يدخل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان ويحتل المنطقة الضرورية، ويخلق نظاماً (...) يتحالف مع "إسرائيل"، أما بالنسبة للمنطقة من الليطاني إلى الجنوب فسوف تضم كلياً إلى "إسرائيل"!
وأغرب ما في الأمر أن دايان، بعد أكثر من عشرين عاماً من العمل التآمري الدؤوب، عثر على الضابط المرتجى، وبرتبة رائد ويا للعجب (سعد حداد) وحاول أن يطبق الخطة التي ترعاها الاستخبارات الأميركية وتتطلع إلى تحقيقها منذ ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني، وهي تمزيق لبنان إلى كانتونات طائفية، غير أنه فشل فشلاً ذريعاً أمام مناعة الشعب اللبناني، وتحولت تجربة الرائد وخليفته إلى مهزلة مأساوية بعد تحرير لبنان لجنوبه، في أيار/ مايو 2000، على أيدي مقاومته البطلة!

الذرائع ومناعة الشعب اللبناني

لقد كتب شاريت في يومياته يقول: يستمر رئيس الأركان دايان في الإصرار على أنه يتوجب علينا استخدام ضابط لبناني يوافق على القيام بدور الدمية الألعوبة، حتى يستطيع الجيش الإسرائيلي الاستجابة لاستغاثته بتحرير لبنان من مضطهديه وقامعيه المسلمين!
وهكذا، فحين لم تكن ثمة ذريعة سوفييتية، ولا سورية، ولا فلسطينية، ولا إيرانية، ولا مقاومة لبنانية شعبية، كانت الذريعة هي أبناء الشعب اللبناني العادي غير المسلح أو المنظم كمقاومة ضدّ الإسرائيليين، أبناء الشعب الذين تقمع طائفة منهم طائفة أخرى حسب مزاعم الصهاينة وأسيادهم الأميركيين، وهاهم اليوم يحاولون استعداء مذهب على مذهب في نطاق الدين الواحد، غير أن موشي شاريت كان يرى في ما عرضه دايان في الخمسينات مغامرة مجنونة، ويرى أن على الإدارة الإسرائيلية: القيام بمهمات بحث وأعمال حكيمة، حذرة، هدفها تشجيع الدوائر اللبنانية (...) التي ترفض الضغوط الإسلامية، وتقبل الاعتماد علينا!

إن شاريت لم يكن ضدّ أهداف خطة دايان، بل كان يخشى فشلها ويسعى إلى ماهو مضمون النتائج أكثر، وقد حاولوا في الآونة الأخيرة إحداث مثل هذا الشرخ في المجتمع اللبناني، واعتقدوا لوهلة أنهم نجحوا داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً في توفير كل ما من شأنه محاصرة المقاومة اللبنانية وإبادتها ومن ثم تمزيق لبنان، ولكن ها هو المجتمع اللبناني بجميع تشكيلاته يحبط مخططاتهم مرة أخرى وأخرى، بفضل وعيه ومناعته الصلبة، وها هم المعتدون وقد وقعوا في فخ المغامرة العسكرية المجنونة التي سعى إليها دايان وحذّر منها شاريت منذ عام 1954، ويقفون عراة تماماً أمام الجبهة اللبنانية الصلدة!