الغد الأردنية

رولا خلف

ذات مرة، كانت "كيفون" تعشش وادعة على كتف الجبال المكتسية بالصنوبر، وتطل على العاصمة اللبنانية بيروت. وكيفون ضيعة مسلمة شيعية صغيرة تقع وسط الطريق بين ضاحية مسيحية واخرى مسلمة درزية. أما الآن، فقد أصبحت في عين العاصفة التي طوقت الشرق الاوسط منذ ان احتجز حزب الله الشيعي الإسلامي جنديين اسرائيليين خلال غارة داخل الاراضي الاسرائيلية قبل اكثر من اسبوعين.

اليوم، تحولت منازل كيفون القرميدية القديمة الحمراء والشقق المشيدة حديثا الى مخيم للاجئين يضم عشرات الالاف من المهجرين اللبنانيين الذين تركوا ديارهم في المناطق اللبنانية الجنوبية وفي الضواحي الجنوبية اللبنانية هربا من القصف الاسرائيلي.

وعندما يسدل الليل استاره، تملأ السيارات الشوارع لتكون أنوارها هي الضوء الوحيد الذي يشع في المنطقة التي يلفها الظلام بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وتجلس العائلات في شقق شيدتها مجموعات شيعية من الطبقة الوسطى في المساءات لتشاهد السنة اللهب المتصاعدة من المباني التي قصفت في جنوبي العاصمة اللبنانية.

يقول الرجال هنا ان منازلهم واعمالهم قد دمرت، لكنهم يصرون على ان "الحزب"، كما يشار الى حزب الله في دائرته الانتخابية، يقاتل من اجلهم واناسهم وانه لن يجبن.

ويقول محمد وهو والد لخمسة أبناء: "اننا فخورون ونؤمن بقدرنا. لقد تم قصف مصنع الألمنيوم الذي أملكه، لكننا استطعنا اخيرا ان نرفع رأس العرب. وما لم يستطع اي من الزعماء العرب ان يفعله في مواجهة اسرائيل، بات يفعله الان شخص واحد هو السيد حسن نصر الله"، الامين العام لحزب الله. وكان الهجوم الاسرائيلي قد تسبب باضرار هائلة واسفر عن قتل اكثر من اربعمائة لبناني، معظمهم مدنيون، وشرد اكثر من نصف مليون شخص اخر. كما قال حزب الله من جهته اثناء ذلك انه قتل اربعين اسرائيليا.

ومع ذلك، فإن اسرائيل تتطلع الى تحقيق هدفها، وهو الحد من القدرة العسكرية والقوة السياسية لحزب الله، وهو حزب سياسي منظم يمثل جزءا كبيرا من اكبر طائفة لبنانية، ويحظى بالدعم من سورية وايران على حد سواء. وفي المقابل، ولد الهجوم الاسرائيلي غضبا عربيا عارما ورفع من مكانة السيد نصرالله في العالم العربي والاسلامي لترقى الى منزلة الابطال. كما انه حمل العديد من انداده السياسيين في بيروت على التعاضد في وجه الحملة الاسرائيلية ووضع حنقهم على الرف في الوقت الراهن على الاقل، بسبب اشعال الحزب لشرارة النزاع الحالي.

ولعل مما يثير حفيظة اسرائيل ان المواطنين اللبنانيين، سواء كانوا سنة او شيعة او مسيحيين، قد اصبحوا مقتنعين بان الدولة اليهودية التي كانت قد غزت لبنان في عام 1982 انما تشن الان حربا على كل لبنان. وعند مدخل ميناء بيروت، وامام بناية دمرها قصف الطائرات الاسرائيلية تتجمع عائلات لبنانية على امل اجلائها. وردا على سؤال عن سبب اندلاع النزاع، يرفع مسؤول في الجمارك يديه الى الاعلى باستغراب، ويبدو بوضوح أنه معارض لحزب الله، حيث يقول ان السؤال يجب ان يوجه الى السيد نصرالله وسورية وايران. ويضيف "لا اعرف لماذا تسير الأمور هكذا، ولكنني اعرف انها لن ينتهي الا ونكون قد انتهينا ويكون لبنان قد انتهى ويكون كل شيء بنيناه قد انتهى".

ان ذلك التصميم، إضافة إلى التعقيد العسكري، الذي يتميز به الحزب يقع في قلب اللغز الدولي الخاص بكيفية إيقاف ما يجري على الارض.

لقد اخذ العالم بمأساة لبنان فيما يعتقد العديدون بان البلد الصغير المطل على البحر الابيض المتوسط انما يدفع ثمن المواجهة الدائرة بين الولايات المتحدة ومحور سورية وايران. وهرع المبعوثون الى بيروت للاعراب عن التعاطف مع حكومة يسيطر عليها ائتلاف موال للغرب. وفي نفس الوقت الذي لم تقر فيه اعمال حزب الله، فإنها ناشدت العالم من اجل التدخل لصالح وقف الرد الانتقامي من طرف إسرائيل.

وفي الاثناء، فان معظم الافكار التي تدور حول وقف الاعمال العدائية تدور على افتراض مؤداه ان اسرائيل ستكون قادرة على تحييد حزب الله، مما سيفسح الطريق امام تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي رقم 1559 الذي يدعو الى نزع سلاح حزب الله.

ربما تساعد تعليقات اولئك الذين وجدوا ملجأ مؤقتاً في كيفون في إيضاح سبب انتشار ذلك الافتراض الذي يتجاهل العلاقة بين حزب الله والشعب اللبناني. وتعتبر الولايات المتحدة حزب الله منظمة ارهابية تقليدية مثل تنظيم القاعدة الذي نضج وحان قطافه. لكن حزب الله ينظر إليه في لبنان على أنه حركة مقاومة مشروعة أجبرت اسرائيل على الانسحاب من جنوب لبنان. وبالاضافة الى كونه واحدا من اكبر احزاب البلاد، فانه اكثرها تنظيما أيضاً.

كانت الولايات المتحدة قد اقترحت مؤخراً نشر قوة دولية مع الجيش اللبناني الى الجنوب من نهر الليطاني الذي ينساب على بعد حوالي خمسة وعشرين ميلا من الحدود اللبنانية الاسرائيلية، وذلك لابعاد مقاتلي حزب الله وترسانته من الصواريخ بعيدا عن المدن والبلدات الاسرائيلية. ويدرك المسؤولون اللبنانيون مع ذلك ان حزب الله سيرفض مثل هذه الاقتراحات جملة وتفصيلا. وهم يخشون من ان اي محاولات تجري لفرضها بالقوة قد تقود الى تجدد النزاع الطائفي الذي لم ينته سوى في العام 1991 بعد ستة عشر عاما من الحرب الاهلية الضروس.

وفي السراي الكبير، حيث كانت الثكنات العثمانية القديمة، والتي تعتبر الآن مقر الحكومة، يقول فؤاد السنيورة رئيس الوزراء اللبناني ذو الخلق الرفيع، والذي وجه نداء من اجل وقف الهجوم الاسرائيلي ان التوصل الى قرار خاص بالنزاع يتطلب صفقة شاملة تعالج النزاعات كافة القائمة بين لبنان واسرائيل، وتعطي الحكومة اوراقا للتفاوض مع حزب الله.

ويضيف السنيورة ان الصفقة يجب ان تشتمل على مبادلة للأسرى بالاضافة الى تسوية النزاع على مزارع شبعا التي تقع في شريط حدودي محتل يدعي لبنان سيادته عليه، لكن الامم المتحدة واسرائيل تعتبرانه جزءا من مرتفعات الجولان التي كانت اسرائيل قد احتلتها في حرب عام 1967.

وحتى الآن على الاقل، لم يشعر حزب الله بانه واقع تحت الضغط من اجل التفاوض على وقف النزاع. وقد دخل الاعتداء الاسرائيلي مرحلة جديدة، مفرغا المناطق اللبنانية المحاذية لحدود اسرائيل من سكانها ومرسلا قوات خاصة في مهمات للسيطرة على معاقل وحصون حزب الله.

أما حزب الله، فإن لديه حوالي 5000 مقاتل وعدد اكبر بكثير من قوات الاحتياط. وتشك اسرائيل بامتلاكه المزيد من الصواريخ التي تستطيع بلوغ مدى أبعد من تلك التي استخدمها حتى الآن. وكما يقول انتوني كوردزمان، الخبير في مركز واشنطن للدراسات الاستراتيجية والدولية، فان حزب الله يستطيع تفريق قواته واستبدالها واعادة تجميعها وتحسين تكتيكاته في نصب الكمائن. ويقول تقديره ان استراتيجية اسرائيل يمكن ان تنجح فقط في حال انقلاب المواطنين الشيعة على حزب الله، وهو شيء يعتقد هو والعديد من المحللين بانه من غير المرجح.

ويقول محللون لبنانيون يعرفون حزب الله جيدا انه حتى لو تحققت صفقة الحكومة الشاملة، فإنها ستكون صعبة التسويق على الحزب. ويقول طلال سلمان محرر صحيفة السفير البيروتية ان المبادرات الدولية "لا تأخذ بعين الاعتبار ذلك الواقع والدعم الذي يحظى به حزب الله على الارض".

وفي الغضون، تتعمق الورطة الدبلوماسية بسبب غياب اثنين من اللاعبين الرئيسيين الذين يمتلكون نفوذاً اقوى من الحكومة اللبنانية على حزب الله وهما سورية وايران. ويقول دبلوماسيون اوروبيون ان بعض الحكومات تحبذ اجراء مباحثات مع دمشق، لكن باريس وواشنطن تعارضان السعي لدى سورية لتقديم المساعدة خوفاً من الثمن الذي ستطلبه دمشق في المقابل.

وكانت سورية هي صاحبة اليد الطولى في لبنان حتى وقت متأخر من السنة الماضية عندما تم إجبار قواتها على الانسحاب في اعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري. وينظر تحقيق باشراف الامم المتحدة حاليا في دور مزعوم لضباط سوريين في حادثة الاغتيال. وفي الاثناء، تقدم ايران لحزب الله ارشادا معنويا وكثيرا من المعدات العسكرية، وربما يكون لديها قصب السبق في التأثير على الحزب.

ومع ذلك، فإن سورية وايران ربما تسعيان الى الحصول على تنازلات في مقابل تعاونهما، حيث ترغب دمشق بمثل تلك التنازلات حول نزاعها مع اسرائيل وتحقيقات الامم المتحدة، بينما تهتم طهران بما يتعلق بنزاعها مع الغرب حول برنامجها النووي. ويشكل العراق سابقة مهمة في هذا الإطار حيث تتهم سورية وايران بالتدخل في شؤونه الداخلية، حيث رفضت طهران الدخول في مباحثات مع الولايات المتحدة حول الامن العراقي في ظل غياب حوار اوسع يشمل الموضوع النووي.

ويقول الدكتور غسان سلامة، استاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية في باريس "إنك عندما تحلل الوضع في الشرق الاوسط، فانك تجد ان هناك نقاط ازمة مختلفة تتصل عميقاً ببعضها بعضا. ولإيجاد حل دبلوماسي فإن عليك محاولة تفكيك تلك الأزمات الى قطع".

ويضيف سلامة الذي سبق ان كان وزيرا في احدى الحكومات اللبنانية السابقة "ان ذلك يمكن ان يشكل اكبر تحد هائل للعملية الدبلوماسية [فيما يتعلق بلبنان]."

الفايننشال تايمز