لم يرفض لبنان، ممثلاً بإجماع مجلس وزرائه، مساء أمس، قراراً لمجلس الأمن الدولي بوقف الحرب الإسرائيلية المدمرة على الوطن بدولته وشعبه. لقد رفض مشروعاً يعطي إسرائيل <سلماً> ما لم تستطع أن تنتزعه بحربها التي نسفت معظم بنيته التحتية ومرافقه الحيوية وهجّرت أكثر من ربع شعبه لتجعل مليون مواطن لاجئين في وطنهم، بغير أن ننسى شهداءه الذين تجاوزوا الألف وجرحاه الذين يقاربون حتى الساعة الأربعة آلاف، فضلاً عن الكارثة الاقتصادية التي سيعاني كثيراً من وطأتها الثقيلة مستقبلاً.

إنه مشروع أميركي بصياغة فرنسية يحاول أن يعوّض إسرائيل بعض هزيمتها العسكرية المدوية.

لكأن إسرائيل ينقصها السلاح الأكثر تطوراً والأعظم فتكاً، طيراناً حربياً وطوافات مصفحة وصواريخ بعيدة المدى ودبابات تفاخر بها وتبيعها لدول أكثر تقدماً منها، فكان لا بد أن تتدخل الولايات المتحدة الأميركية ومعها فرنسا لنجدتها بمشروع قرار يجسّد الانحياز المطلق لجريمتها ضد الإنسانية التي ترتكبها في لبنان (هل تكفي صور أطفال قانا الجديدة دليلاً؟).

إنه مشروع قرار نموذجي للانحياز الفاضح إلى الجلاد ضد الضحية.
وباعتبار أن انحياز الإدارة الأميركية إلى إسرائيل مطلق، حتى وهي تدمر البيوت على رؤوس أهلها الآمنين، وتغتال الأطفال وهم على صدور أمهاتهم، وتقطّع أوصال الوطن الصغير بنسف الجسور ووسائط الاتصال، فإن الالتحاق الفرنسي بالقرار الأميركي يستحق وقفة خاصة... فالمقدمات، من رسائل التطمين إلى الاتصالات الشخصية التي شارك فيها الرئيس جاك شيراك نفسه، فضلاً عن <العلاقات التاريخية الخاصة والاستثنائية> التي تحرص فرنسا على ادعاء التزامها تجاه لبنان، كل ذلك كان يدفع إلى الاعتقاد أن الموقف الفرنسي سيكون أقرب إلى <الضحية> منه إلى <القاتل>. لكن الوقائع جاءت مخيّبة لآمال من راهن على الحد الأدنى من استقلالية الموقف الفرنسي عن الإرادة الأميركية، ولتبق في الذاكرة تلك الوقفة الشجاعة لفرنسا بعد مذبحة قانا الأولى في 16 نيسان ,1996 والتي استدرجت إلى موقعها الإدارة الأميركية، بينما يحصل العكس تماماً الآن فتستدرج واشنطن باريس إلى موقع المتواطئ مع السفاح الإسرائيلي على الضحية.
إن مشروع القرار المطروح على مجلس الأمن إنما يحاول استنقاذ <سمعة> إسرائيل كقوة عظمى.. فيه!. ولو مهزومة في ميدان المواجهة مع مجاميع من المجاهدين الذين وهبوا أرواحهم لله ووطنهم، وصمدوا لعدوهم فصدوه وكسروا هيبته وأذلوا جيشه الرهيب، وفضحوا ركاكة حكومته الائتلافية ذات الواجهة المدنية.

وهو مشروع لا يكتفي بتجاهل مطالب لبنان أو التحايل عليها، بل إنه يحاول أن يفرض على اللبنانيين، دولة وشعباً، مطالب إسرائيل وشروطها المذلة، سواء تلك السابقة على الحرب أو التي استجدت نتيجة هزيمتها في حربها المدمرة.

بل يمكن الادعاء أن هذا المشروع يصلح لأن يكون مرتكزاً <للشرق الأوسط الجديد> الذي بشّرتنا به وزيرة خارجية الإدارة الأميركية كوندليسا رايس يوم جاءتنا في بيروت، قبل أسبوعين، منذرة بالويل والثبور إذا ما اعترضنا عليه ورفضنا أن يكون لبنان المرتكز الأول فيه، وقبل العراق تحت الاحتلال الأميركي! وكذلك قبل ما تبقى من فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي!

إنه مشروع يستهدف الإرادة الوطنية، ويراهن على انقسام سياسي يضيع في لجته الانتصار الذي حققته المقاومة الباسلة بدماء مجاهديها وتلاحم الشعب معها، والتزام الحكومة الثوابت الوطنية الجامعة، كما تمت صياغتها في <النقاط السبع> الشهيرة التي أعلنها الرئيس فؤاد السنيورة في المؤتمر الذي أريد تصويره كأنه إنما عقد من أجل لبنان ووقف العدوان عليه، في حين أن وزيرة خارجية الإدارة الأميركية قد رفضت فيه مبدأ وقف إطلاق النار، متحدية الدول ال14 الأخرى التي كانت تميل إلى التمسك بذلك المبدأ.
ولقد كان منطقياً أن يعيد مجلس الوزراء، مساء أمس، التزامه <بالنقاط السبع> التي سلّم بها اللبنانيون على مضض، بهدف تظهير صورة لبنان كضحية، من جهة، واستعداده لقبول الحد الأقصى مما يمكن القبول به من التنازلات من أجل وقف الحرب الإسرائيلية، بدعم من <المجتمع الدولي>.

إن هذا الإجماع المتجدد في مجلس الوزراء، الذي يحظى بتأييد شعبي شامل يضيف إلى سلاح المقاومة المظفرة ويعزز جهادها المجيد من أجل دحر الحرب الإسرائيلية وإسقاط أهدافها السياسية التي عجزت عن تحقيقها في الميدان.

... وفي روما استذكر الرئيس فؤاد السنيورة قولاً للمؤرخ الروماني تاسيتوس في <هذه المدينة العظيمة منذ ألفي سنة، وهو قول يصف تماماً ما تقوم به إسرائيل في لبنان والمنطقة اليوم.. اقتبس: <لقد صنعوا الخراب ويسمونه سلاماً..> لا تسمحوا للخراب أن ينتصر>.

ومشروع القرار الأميركي الهدف الفرنسي الصياغة يكاد يكون إذنا للخراب بأن ينتصر، بعد تصويره كأنه يعبّر عن <الإرادة الدولية>.

لكن الأرض هي التي تقرر بإرادة أهلها وصمودهم. ولن يقبل لبنان الهزيمة حتى لو حملت ختم <المجتمع الدولي>.