من الواضح ان هناك متغيرات قد طرأت على الخريطة السياسية العالمية خلال السنوات القليلة المنصرمة ، والتي تشير الى ان المناخ السياسي والاقتصادي والامني الدولي لم يعد مقبولآ من قبل الكثير من الحكومات والبلدان والمنظمات الدولية المستقلة التي ضاقت ذرعا بالتجاوزات والصلف الذي اشاع التوترات والانتهاكات الصارخة للامن والسلام العالميين .
لقد اضفت الولايات المتحدة الامريكية بسياساتها ومنذ سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة ، مناخات السلوك العصبوي المستهتر بكل القيم والاعراف ، والمندفع بصبيانية منفلتة ، غايته الاساسية أخضاع الاخرين لمشيئة وقرار طغمة راس المال المالي ومطامعه وشهوته التي لا حدود لها ، وهي في طريقها بدأت بأسر وتحوير وتفكيك وتشكيل المؤسسات الدولية ، لتُشرع مسيرتها ومشاريعها الاستعمارية ، ولتلوي عنق الاعراف والقوانين الدولية ، وتتجاوزها لتكريس خصائصها السياسية والاقتصادية لصالح اهدافها وتوجهاتها في السيطرة والاستغلال لموارد وثروات البلدان الاخرى .

كان احتلال العراق وما سبقه من مبررات وادعاءات كاذبة ومظللة ، وما تبعه من فوضى غير خلاقة لم تثمر غيرالتدمير والقتل والنهب ، باسم تحرير العراق ودمقرطته ليكون نموذج لبلدان الشرق الاوسط الجديد ، قد دشن تصعيدا نوعيا لعموم حركات مناهضة العدوان حول العالم ، وجاء ليتسق مع تصاعد وتعاظم كفاح المقاومة العراقية وتصديها البطولي لجحافل البرابرة الجدد ، وليصبج العراق مضرب الامثال بالعبث الامريكي بمقدرات الشعوب ومصائرها .

ان ما تلا احتلال العراق من فشل سياسي وعسكري لبسط السيطرة الامريكية وتمريرها لخططها المرسومة المسمومة ، ومن تدمير وقتل ونهب ، قد كشف وعرى طبيعة ونهج القائمين على ادارة الحرب الامريكية وأشر إلى خطورة هذا النهج على الاستقرار السياسي والاقتصادي العالمي وما له من تداعيات تضر بمصالح الشعوب وامنها وسيادتها .

لأكثر من عقد مضى شهد توازن القوى العالمي اختلالآ صارخآ لصالح الادارات الامريكية المتعاقبة ، والتي جهدت على تكريسه سياسيآ وعسكريآ عبر منهجية تخدم استراتيجيتها الجديدة لما بعد الحرب الباردة ، بهدف احكام السيطرة ومد النفوذ ليطوق روسيا وليمتد الى باكستان وحتى المغرب العربي ، ناهيك عن منطقة الخليج العربي ، وبذلك اصبحت مناطق النفوذ الحيوي الامريكي لاحدود لها ، وعليه اصبح مسلسل الحروب والتهديد بها لا ينتهي ، فكانت الحرب على ( الارهاب ) في افغانستان واحتلالها ، بداية التطويق المباشر لحزام الطاقة بأمتداداته من بحر قزوين وصولآ الى العراق بمخزونه وثروته الهائلة .
اصبحت ايران وسوريا ولبنان مهددة بشكل جدي في قرارها السياسي وجغرافيتها الوطنية ، ولم تسلم دول مثل ليبيا واليمن والسودان من الضغوطات والتدخلات غير المباشرة بشؤونها الداخلية ، وبدا ان السوط الامريكي يلهب ظهور انظمتها وشعوبها ، عبر خلق مختلف الذرائع والحجج ، اضافة الى استخدام المنظمة الدولية للامم المتحدة ومجلس امنها كسيف مسلط على الرقاب ، فكانت قضية لوكربي ودارفور والوجود السوري في لبنان ومقتل الحريري ونزع سلاح حزب الله ، وكانت الضغوطات الهائلة على العديد من الانظمة العربية للدخول في اتفاقيات امنية اجبارية في مجال تبادل المعلومات ومحاربة تنظيم القاعدة وتسليم المشتبه بهم واقامة السجون السرية .
قسمت الادارة الامريكية العالم الى فريق الاخيار وفريق الأشرار ، وبالتالي فان من ليس مع امريكا ونهجها فهو ضدها ، ولترجمة شعارها هذا ، سخرت الطغمة الامبريالية ماكنتها الفكرية والثقافية والاعلامية الهائلة ، وطوابيرها الخامسة من المثقفين والاعلاميين والمفلسين من احزاب الردة ، لقلب المفاهيم وتشويه الحقائق وتسخيف القيم الوطنية والنضالية ، وحاول منظرو هذه الطغمة من المحافظين واليمين المتصهين ، ايجاد التبريرات الفكرية والسياسية للنهج الاستعماري الجديد وخلق القناعات الشعبية له عبر التاثير على الرأي العام وتطويعه لتقبل الية وسبل تطبيق هذا النهج ، والتي اعتمدت بمجملها على سياسة الفرض والقوة والاحتلال .

لقد وجدت بعض الحكومات الاوربية فرصتها في الانضواء تحت جناح النظام العولمي الامريكي ، لتحقيق بعض احلامها المفقودة ولتوفر لشركاتها الكبرى حصة المقاول الثانوي من الغنيمة القادمة ، وحكومات اخرى سايرت وحابت الولايات المتحدة في معمعة هوس ( الحرب على الارهاب ) ، وحكومات ثالثة إنكفأت وراوغت لأمتصاص الصدمة والنقمة ، ولتعيد حساباتها وتهيئ مستلزمات النهوض القادم بعد انهاك الوحش الامريكي .

ان نهج ادارة بوش شكل منحدرآ حادآ لسمعة امريكا الدولية ، والذي كشف بدوره بوادر ضعفها ومأزقها ، لقد سقط بعض حلفاء بوش في انتخابات بلدانهم كبرلسكوني وازنار ، وسيفقد بوش حليفه التابع بلير ، وكذلك فأن المد المعادي والمناهض للسياسة الامريكية في امريكا اللاتينية ، الحديقة الخلفية للولايات المتحدة بدأ يتسع ، وبوادر نهوض الدب الروسي تتضح ، لينفض عن فروته عوالق الانفتاح وتداعياته ، واتجاهه لبناء دولة المؤسسات السياسية والاقتصادية والعسكرية الوطنية ، البعيدة عن بعض الاشتراطات الامريكية .
لقد نجحت روسيا والصين في الحد من الاندفاع الامريكي في بعض القضايا الملتهبة ، كالملف النووي الايراني ، ومحاولة فرض الصيغ الامريكية للتعامل معه ، وكانت قمة شنغهاي واجتماع الدول الثمانية في بترسبورغ ، محافل دولية أشرت وبوضوح الضعف الامريكي في امكانية تمرير جميع متطلباتها السياسية والاقتصادية ، اضافة الى التحذير الذي اطلقه وزراء مالية هذه الدول حول التأثيرات السلبية للعجز التجاري الامريكي ، واضطرار الولايات المتحدة للقبول ببعض الوعود الصينية في تعديل الميزان التجاري بين البلدين ، حيث تكشف التقنية الحديثة للاتصالات طبيعة الأزمة البنيوية التي يعيشها الاقتصاد الامريكي ، وخاصة في قطاعات معينة منه .

ان مشروع الشرق الاوسط الجديد او الكبير كما يسمى ، وبمواصفاته الامريكية ولمساته الاسرائيلية ، والذي بدأ الاعداد له مع (معاهدة كامب ديفيد) لم يكتب له النجاح والتمدد ، وتعثر وحُدِدّ بفعل الممانعة والمقاومة التي واجهها في مفاصل اقليمية حاسمة ، جعلت من مرحلة تجميده ، مرحلة تمهيد الطريق سياسيآ واقتصاديآ وعسكريآ ، فجاء غزو واحتلال العراق ليحي هذا المشروع ، ولكن بخصائص اكثر قسوة واشد تركيزآ ، وفي ظل ظروف ومناخات القطبية الاحادية ونظامها العولمي الذي يبغي فرض ترتيباته العالمية فرضآ ، بغض النظر عن اهوال وتداعيات ذلك على شعوب المنطقة والرأي العام وشرائع القانون الدولي .
ان تعثر المشروع الامريكي في العراق وفشل خططه السياسية والعسكرية ، والخسائر الكبيرة التي تتكبدها الة الحرب الامريكية ، واتساع مناهضة ومقاومة المحتل ، أوقف التمدد المطلوب امريكيا ، وأخرّ الى حدٍ كبير اختراق الحلقات الاقليمية الأخرى ، وعرقلَ جهدها العسكري والسياسي .
لقد كشفت يوميات الاحتلال عن وجهها الفاشي في ارتكاب ابشع المجازر والجرائم بحق الشعب العراقي ، وفضحت الاكاذيب والمبررات التي ساقوها لشن الحرب واحتلال العراق ، وجاءت هذه المغامرة الامريكية لتعري عورات امريكا العسكرية ، بعجز التها العسكرية المتطورة وجيوشها الضخمة امام المقاومة الوطنية ، وبضعف قدرتها بشن حرب موازية في وقت واحد ، ولتعري عزلة طغمة الحرب الامريكية ، رغم المجاراة والمحاباة لبعض الدول اضافة للتابعين والخانعين من انظمة الحكم العربية .
ان رفض الكثير من الدول والحكومات والشعوب لصيغ القيم والمفاهيم الامريكية حول الديمقراطية وحقوق الانسان ، تؤكد العزلة والكراهية لنهج وسلوك هذه الادارة ورموزها .
لقد بدأ أفول نجم هؤلاء المحافظين الجدد ، وبدأت الاصوات تتعالى من المفكرين والساسة والاعلاميين ، حول عدمية النهج السياسي والعسكري الامريكي ، وخاصة بين اولئك الذين نظروا واقنعوا ادرة الشر الامريكية بغزو العراق واحتلاله .
ان تراجع واقرار وليام باكلي وهو محافظ يميني وكاتب ومفكر وكذلك ريشارد بيرل احد المخططين الاستراتيجين في ادارة بوش ، بفشل السياسة الامريكية وعدم قدرتها على تحقيق اهدافها المرجوة ، توافق مع استنتاجات جورج ويل واندرو سوليفان ، وهما من الكتاب البارزين اليمينين ، في استخلاص النتائج الكارثية والدروس القاسية لنهج ادارة الحرب .
اما فرانسيس فوكاياما صاحب نظرية نهاية التاريخ واحد اكبر الداعين لاحتلال العراق ولنهج الادارة الامريكية ، فقد اكد فشل سياسة الاحتلال وشدد على تداعياته بتحول العراق الى مرتع للقاعدة بديلآ عن افغانستان .

ان انفضاض هؤلاء وغيرهم من عتاة ساسة امريكا ، اشارة بالغة الى المأزق والتخبط الذي يعانيه مشروع ادارتهم ومخططاتها ، أي مأزق تكتيكهم العسكري والسياسي ، والذي سيؤسس لامحال لبداية هزيمة استراتيجية ، تدركها الادارة الامريكية وتعي معانيها وتداعياتها المستقبلية ، ويدركها كذلك معارضوا هذه الادارة من الديمقراطيين ، الذين يختلفون معها في الية النهج والاساليب المتبعة .
لذلك دفعت اوساط من داخل هذه الادارة ومن اقطاب الديمقراطيين ، إلى التغيير بشكل الخطاب السياسي والدبلوماسي ، خاصة بعد استلام كوندليزا رايز للخارجية الامريكية ، يوحي بتغير اسلوب وطريقة التعامل الدولي من جانب الادارة الامريكية ، وليشير الى تراجع إلتفافي ، عبر التأكيد على التعاون الدولي واشراك الحلفاء والاصدقاء في تناول القضايا الملتهبة وقضايا الخلاف ، وانهاء حالة الجفاء مع بعض الدول الاوربية ، وتجاوز تداعيات احتلال العراق وطلب المساعدة في استتباب الوضع العراقي ، والقبول على مضض في ان يكون الحوار الوطني اللبناني هو السبيل للتفاهم حول تطبيق الفقرة الخاصة بنزع سلاح المليشات في لبنان ، والذي لم يبتعد عن تاثير وتدخل السفارة الامريكية في بيروت عبر رموز سياسية معروفة ، بنفس الوقت تراجعت هذه الادارة امام الموقف الايراني المتصلب بشأن ملفها النووي ، وعملت بخبث على اشراك وتوريط الاوربيين وروسيا والصين في تناول هذا الملف ، وحاولت تشديد الخناق على سورية بالضغط والترهيب ، لفك الارتباط بين حلقتين مهمتين من حلقات مشروعها الاقليمي .

ان التغيير في التكتيك الامريكي قد افرد مساحة واسعة لأسرائيل لتقوم بدورها الاقليمي على الجبهات الفلسطينية واللبنانية ، لذلك اصبحت مهمة اسقاط الحكومة الفلسطينية المنتخبة وضرب وتدمير البنية التحتية الفلسطينية عبر الغارات اليومية ، ومحاولة تصفية الاجنحة العسكرية لمنظمات المقاومة وقادتها ، وكسر ارادتها ، وسياسة العزل والتقطيع ، مقدمات لتمرير خطة اولمرت احادية الجانب ، وفي نفس الاتجاه كانت ادارة الحرب الامريكية قد بدأت بتسخن الجبهة اللبنانية دبلوماسيآ وسياسيآ ، عبر الضغط والتهديد ، بعد ان ادركت صعوبة تحقيق اهدافها في صياغة لبنان الشرق اوسطي الجديد الخالي من سلاح حزب الله وتاثيره السياسي والاجتماعي والوطني .
لذلك كان التوكيل الامريكي لأسرائيل بشن حرب التدمير والارض المحروقة على لبنان للقضاء على المعيق الاساسي في هذه الحلقة وهي المقاومة الوطنية اللبنانية ، ولتمهيد الطريق لعزل سوريا ومحاصرتها ، وكسر حاجز الجبهة الاقليمية الممانعة ، والذي بدوره سيضعف الموقف الايراني في المواجهة مع الولايات المتحدة ويحد من تأثيره في العراق .

لقد اصبح واضحآ ، ان صقور البيت الابيض يديرون هذه الحرب على لبنان سياسيآ ودبلوماسيآ وحتى عسكريآ .
ان هذه الحرب هي حرب امريكية بأمتياز ، تفتقد بطبيعتها التدميرية وسعتها كل مبررات اندلاعها الواهية ، وتشير وتؤكد مجرياتها العسكرية والسياسية ان التغيير في التكتيك الامريكي بتبادل الادوار مع اسرائيل ، عبر الغزو المباشر والاحتلال لضرب بؤر المقاومة والممانعة ، لايضيف للمشروع الصهيو امريكي إلا مزيدآ من الغوص في اوحال الجغرافية الوطنية لشعوب منطقتنا .
وعليه فأن فرص النجاح لفعل هذه المتغيرات هي اضعف مما يتصوره مخططوا البيت الابيض ، خاصة اذا كانت سياسة الهروب الى امام اصبحت جزءآ من المنهج العقلي لطغمة الحرب الامريكية .