من أجمل ما في اللغة العربية قدرة بلغائها على توليد المعنى الجميل أو استيلاده أو نحته من مفردات متضادة أو متناقضة لفظاً ومتباينة معنى. وينظر أهل البلاغة الى هذا المسلك الابداعي في أحد أمثلته بالقول: ينزل التضاد منزلة التناسب فيقال للأعمى بصير ويقال للقبيح قمر وللجبان سبع وللبخيل حاتم وللصديق لدود وللعدو حميم. هذه العلاقة المتحركة بين مفردات اللغة العربية تتيح للحصيف الذي يريد أن يقول شيئاً ولا يستطيع أن يقوله، أن يقول شيئاً آخر يبلغ به كبد المراد من دون أن يصيبه مكروه، أو يصيب المكروه من تقصده بالقول.
كأن الخبث الذي يصل أحياناً الى مستوى الضرورة، يسلك مسلك اللطف، ما يعبر عنه في بعض الثقافات الشريكة لنا بأن أهلها يذبحون بالقطنة. وهنا يحاول الذي يريد أن يفقأ دملاً ولا يريد أن يحدث جرحاً في أخيه أو حبيبه الذي يحبه ويختلف معه أو عنه، ويختلف معه أو عنه لأنه يحبه، وإن كان هذا الأخ أو الحبيب لا يحب الأخوة أو الحب الا على حرف واحد ولون واحد وإيقاع واحد، أي ممل وغير مجدٍ.
فما حيلة الذي يريد أن ينصح من دون أن يجرح الا أن يتوسل باللغة، هنا يسعفه كبير بلغاء العرب في نهج البلاغة عندما يعبر عن شغفه بشغب المرأة على زوجها وكأنها ضرورة حياة وحيوية من دون هذا الشغب تصبح الحياة الزوجية صقيعاً. يقول علي: "المرأة عقرب حلو اللسبة" أنا الآن أريد أن أكون عقرباً حلو اللسبة، لأن النقد ضروري كالحب، والحب ضروري كالنقد، والحب من دون نقد نفاق، والنقد من دون حب شر لا خير فيه.
"وصديقك من صدقك"، و"من أشار على أخيه برأي يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه". ومرة خرج علي من موقعة حرب منتصراً فتصدى له أحدهم بالمديح وأطنب فأجابه علي بالقول المعروف له: "أنا فوق ما في نفسك ودون ما قلت". أما أنا فأقول بئست الجماعة أو الحزب أو الدولة أو الحكومة أو الجمعية أو النقابة أو الأسرة أو المدينة أو القرية أو العمارة التي لا تستدرج نقادها ليعرضوا نقدهم عليها، أي لها، ومن أجلها، حتى لا يتحول هذا النقد الى كيد إن بقي مكبوتاً، وينفجر في الناقد والمنقود معاً.
وهل هناك مواعيد للجهر بالنقد؟ أعتقد ان كل الازمنة وكل الظروف مفتوحة للنقد، غير أن اللغة هي التي تجعل النقد نقداً لا نقضاً ولا كيداً، واذا كان زمن الحرب مع الاعداء يقتضي أن لا يصب النقد في طاحونة الاعداء، فإن عدم النقد يجب أن لا يصب في طاحونتهم ايضاً، فكيف يصب النقد في طاحونة الاحباب؟
عندما يكون الناقد شبيهاً للمنقود والشبيه ليس مطابقاً للمشبه به، بل هناك وجه شبه ربما يكون وحيداً بينهما مع بقاء الفوارق فوارق، والا فإنها كارثة اذا ما كانت المرأة في قول علي هي العقرب أصلاً وفصلاً... اذن نتشبه بالعقرب ونجعل نقدنا جميلاً، أي فاعلاً ومؤثراً وعذباً، ونستخدم اللغة كما يستخدم الطبيب المواد الطبية الممهدة لغرز الإبرة في ذراع المريض قبل الغرز وبعده حرصاً على النظافة والسلامة وعلاجاً للجرح الخفيف الذي كان لا بد منه من جل الشفاء، وأحياناً تكون المادة المزروقة في العضل القوي المفتول أو الضعيف علاجاً، وأحياناً تكون وقاء من مرض قتال قد أخذت طلائع جراثيمه تنتشر في الجو بفعل فاعل خبيث كاسرائيل أو غيرها، أي تكون المادة لقاحاً، وفي هذه الحال لا يكون خوف الطبيب على ذاته وأهله الذين يعالجهم أو يقيهم من المرض الفعلي أو المحتمل، أقل من خوفه على الوطن. وفي الازمات تقصر المسافات وتتلاشى الابعاد بين الذاتي والموضوعي، أو بين الذاتي والغيري، يصبح الوطن كله والمواطنون كلهم ذاتاً للمواطن الخفير الذي يمارس خفارته بما تقتضي من تقوى وحكمة وشفافية.
يلاحظ القارئ أني أدور، لأنه في زمن الحرب يصبح تدوير الزوايا والكتابة بريش الحساسين أمراً عسيراً. فماذا أفعل اذن؟ أدور إذن والدوران في مركب اللغة عذب وإن كان يسبب الدوار احياناً، فليعذرني القارىء، لأن الأرض تدور بي.
أقول من موقعي كمواطن لا يستقيل من جماعة رغبة منه في أن يكون مقبولا في الجماعة الأخرى (ما زاد حنون في الاسلام خردلة) ولن يقبل. بل ربما كان مقبولا في حدود التسامح في قبول سقط المتاع لا أكثر ولا اقل. وهنا يكون هذا المنافق أضر بنفسه والجماعة المنتقل اليها من دون ان تقبله، أما اذا قبلته فإنها تثبت غباءها.
وأقول من موقعي كمواطن مصر على المواطنة رغم كل صعوباتها وعوائقها لأنها الخيار الحضاري والأخلاقي الوحيد في لبنان، بأني بمقتضى المواطنة يفترض أن ارى الجماعة الاخرى شرطاً لجماعتي، وأدعي أن كل الحروب (الداخلية؟) في لبنان قد أثبتت أن كل جماعة هي شرط للجماعة الأخرى، أياً كانت صفة هذه الجماعة الدينية أو السياسية. وقولوا لي أي حزب في لبنان لم تصبه عملية التفتيت؟ وأي طائفة في لبنان لم تنقسم وتحترب في ما بينها؟ والوحدة مهما تكن قوية فلن تكون مضمونة دائماً. ولنذكر معاً ما حصل لكل الوحدات اللبنانية. ومن هنا أقول لزعماء الطوائف الفرديين والحزبيين، أطلقوا سراح أهل النقد من طوائفكم، لا تخيفوهم ليخفوا نقدهم، وهم أقدر منكم على قراءة ما حولكم أو في قدرتكم نفسها، لأنهم واقعون قهراً في داء الإيديولوجيا التي تجعلكم ترون الواقع، واقعكم وواقع الآخرين، كما تحبون وتكرهون، وهذا المسلك جربتموه سابقاً وخسرتم وخسر لبنان...
أريد نقداً مارونياً للموارنة، أي للسياسات المارونية على اختلافها ونقداً سنيا للسنة أو السياسات السنية على اختلافها. وكذلك للشيعة والدروز وبالجملة والمفرّق.
على ان لا يفهم مني أنني أدعو الى بازار مزايدت او هايد بارك كلام للكلام الذي إذا ما تراكم بعشوائية تحول دماء تسيل بيننا... نريد نقداً شفافاً محباً وعميقاً من العقل والقلب والذاكرة والرؤية. نريده الان وعلى عجل حتى لا يتحول تقديس الذات وأبلسة الآخر الى تفتيت للبنان بما فيه ومن فيه جميعاً نريد وقفاً للنار في الداخل من خلال الشراكة في الرؤية والقراءة، وتجنبا لتحول نار المواقف الحامية والقاطعة والمقطوعة الى نار حارقة تأكل الأخضر واليابس، تأكل ما تبقى من أخضر ويابس، بعد هذا العدوان اللئيم وغير المفاجىء، والذي لم يبق من أخضرنا ويابسنا إلا القليل القليل. والذي كان يمكن ان نستوعبه ونحوله، على هوله، الى مناسبة لمزيد من الشراكة على أساس التسوية التي هي الحق والحقيقة، كما فعلنا عام 1993 و1996 لولا أن نصاب الوحدة بيننا قد تراجع الى حد يصبح معه الخوف أمراً عقلياً ومعقولا. أما الذين لا يخافون من المستقبل فهم ناقصو العقول طبعاً وقطعاً. لقالوا نصنع عقلنا معا. وإن كان هناك منكم من يدّعي ان عقله يكفيه، فأنا أقول له بانه "غلطان" هذا مع حسن الظن وإلا فهو أسوأ وأخطر.
أرجو أن أكون قد وفقت بالإلتفاف على المعنى الذي أريد إيصاله من دون أن أكون قد خنقته باللغة الناعمة الملمس كالأفعى. أنا أحب أن أشبه الأفعى في حذرها. وأحب أن تكون لي عينا زرقاء اليمامة وأن يصدق قومي أني رأيت لهم. ولا يعاقبوني على اني رأيت أو على ما رأيت.
عزيزي القارىء ارجو ان تسامحني على الاطالة في الفذلكة اللغوية التي لا تناسب حالة القلق التي تعيشها، خاصة اذا ما كنت مجاوراً لمدرسة فيها مهجرون من جنوب القلب، لينغص عليك هذا المشهد ما تشعر به من فخر بأولئك الذين يشبهون الملائكة، بل أنا أشبه الملائكة بهم، وهم يمرغون جباه الصهاينة بالوحل، وليس في جعبة الواحد منهم من خبز وأدام وماء للشراب أكثر مما يتلهى به حوت وطني واحد بعد تناوله وجبة الصباح. كأنهم جمال المحامل (القناطر الحجرية التي تتوسط بيوت الحجارة والطين في عيتا الشعب ومروحين وتحمل السقف بصبر وثقة وأناة) يحملون الجنوب على مناكبهم، ويغتذون من مخزون الإيمان والشرف الذي تعاظم في سنام كل واحد منهم منذ خطا الخطوة الاولى الى معسكر التدريب.
عذري أني مضطر للمناورة البريئة حتى لا أظلم أحداً ولا يظلمني أحد... وأؤكد لك اني لا رغبة عندي في الانتصار على أحد من المواطنين. وكل ما أريده أن نكمل هذا النصر المكلف بالنصر على أنفسنا (جميعنا) حتى لا يتناقص مفعول النصر أمام حجم التكلفة. ولا يُحرم أو يحرم نفسه من ثمراته من لم يشارك فيه مباشرة لأسباب وظروف معروفة. وعذراً من إلحاحي على طلب النقد بلغة طائفية، وأنا أنتظر نهاية هذه الحرب بسلام داخلي، يضعنا على الطريق الى كلام سياسي وطني يمر بالطوائف ويتجاوزها... نسأل الله أن يكون لدينا في لبنان أحزاب غير طائفية مدنية لا تشبه ما لدينا من جمعيات حتى لا نعود الى سيرتنا بإلغاء الطوائف بدل إلغاء الطائفية أي تثبيتها . أعني ان إلغاء الوطن هو إلغاء للطوائف جميعاً، ولا يلغى الوطن إلا بالطوائف (إني أوافق وأرضى بأن يكون زوال إسرائيل تعويضاً عن زوال لبنان؟؟؟)
هذا كلام صعب... ولكن حالنا أصعب، فعذراً عذراً. بعد أن عرفنا أكثر تخلصنا من بساطة الاعتقاد بأن صوت البومة شؤم وعرفنا أنها لا ترفع عقيرتها بالصراخ الا عندما ترى خطراً خافياً على الانسان الذي يلغها سراً وجهراً... هناك رف من البوم ينام في خرابات لبنان، يراقب طرقه وجسوره المقطوعة، ويرى حركات لقطعان من الوحوش الضارية قادمة لقضم معنى لبنان ولبنان بعدما استساغت نهش لحم الشهداء تحت الأنقاض.
ولاحظوا معي نسبة الأطفال فيهم، أليست هي نسبة المستقبل وان الثلاثين في المئة من الاطفال، من المستقبل، تزيد قيمتها ومعناها على السبعين في المئة من الماضي الذي نجلّه ولا نحفظه الا بالمستقبل؟