د. فيصل القاسم

لا أدري لماذا نضيع وقتنا بتقديم النصح لبعض الأنظمة العربية كي تتعظ من قصة الثيران الثلاثة التي ضحك عليها الأسد وأكلها الواحد تلو الآخر بعد أن أوقع بينها. فعلى ما يبدو أن بعض الأنظمة تدرك جيداً المآل الذي آل إليه الثور الأحمر في الموعظة الشهيرة، لكنها مع ذلك راضية أو مضطرة لأن يصيبها ما أصابه ومستعدة لأن تسير إلى آخر المطاف في طريقها الانتحاري، لأنها، باختصار، جزء لا يتجزأ من المؤامرة على أوطاننا، شاءت أم أبت.

ولا أعتقد أن هناك مبالغة في مثل هذا الطرح إذا ما رأينا الطريقة التي تتفاعل بها تلك الأنظمة مع ما يدور من حولها من أحداث ومخططات جهنمية لا يتردد أصحابها في الإفصاح عنها وتنفيذها جهاراً نهاراً. ألم يكن العراق ومن قبله فلسطين بمثابة الثور الأبيض الذي تآمر عليه الثوران الأسود والأحمر مع الأسد وافترسوه شر افتراس؟ ألا يمثل لبنان دور الثور الأسود الآن والحبل على الجرار؟ ألا يقترب الأسد من الثور الأحمر رويداً رويداً ولا حياة لمن تنادي؟ ألم يصبح مشروع تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ إلى شراذم ودويلات وأقاليم قزمية معروفاً للجميع بعد أن نشره مخططوه على الملأ في مواقعهم الالكترونية بكل وقاحة وصفاقة.

وكي لا نظلم الثور الأحمر الذي قال قولته الشهيرة : «أ ُكلت يوم أ ُكل الثور الأبيض» يجب ألا نقارن وضعه بوضع الحكومات العربية لأنه لم يكن على دراية بمصيره المشؤوم إلا بعد أن وقع الفأس في الرأس، أي بعد فوات الأوان، ثم إنه اعترف بخطيئته الفادحة، أما بعض أنظمتنا، ومن سخرية القدر، فهي ترى سيناريو الثيران الكارثي يتكشف أمامها بوضوح شديد، لكنها ترفض تجنبه أو الاعتراف به وتسير في اتجاهه كما تسير الفراشات إلى بؤرة الضوء الحارقة لتواجه مصيرها المحتوم، مما يجعلنا نتساءل عما إذا كان بعض حكامنا متورطين فعلاً فيما يتهدد المنطقة من مخاطر وكوارث قادمة، طوعاً أو قسراً.

لقد نشر موقع (مجلة القوة العسكرية) الأمريكي خريطة جديدة للشرق الأوسط الجديد وفقاً للرؤية الأمريكية مرفقاً بمقال للجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيتر تحت عنوان (حدود الدم) يشرح فيه التقسيمة الجديدة للمنطقة حيث سيتم استقطاع أراض من دول وإضافتها إلى دول أخرى وإقامة دول جديدة بحيث ستكون اتفاقية سايكس بيكو سيئة الذكر التي قطعت أوصال المنطقة العربية مجرد «لعب عيال» بالمقارنة مع الخطة الجديدة. أما الدول المستهدفة بالتقسيم والاستقطاع فهي سورية، العراق، السعودية، الإمارات، تركيا وإيران.

وهناك دول سوف يتم توسيعها لأسباب سياسية حيث ستـُضم إلى اليمن أجزاء من السعودية. وتتحدث الخطة عن الأردن الكبير الذي سيـُضاف إليه أجزاء من السعودية والضفة الغربية وربما أجزاء من جنوب سورية. كما ستنشأ دول جديدة كدولة كردستان الكبرى، وستشمل كردستان العراق وكركوك وأجزاء من تركيا وإيران وسورية، ناهيك عن دولة شيعستان، وتشمل جنوب العراق والجزء الشرقي من السعودية والاحواز. كما ستظهر دولة سنستان، وتنشأ على ما تبقى من العراق وربما تدمج مع سورية. كما تبشرنا المجلة الأمريكية بـ«الدولة الإسلامية المقدسة» (على غرار دولة الفاتيكان) وتضم منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة. أما دولة السعودية الجديدة فستفقد أجزاء كبيرة لصالح اليمن والأردن حسب الخطة الأمريكية.

باختصار شديد فإن معظم الأنظمة العربية الحاكمة ستصبح في خبر كان فيما لو كــُتب لتلك الخطة الجهنمية النجاح. لكن مع ذلك فما زال حكامنا يدفنون رؤوسهم في التراب على طريقة النعامة، لا بل يدفعون باتجاه الكارثة، كما نرى من مواقفهم تجاه العراق ولبنان وفلسطين وسوريا. فماذا يمكن أن نفهم من ذلك الصمت الرسمي المخيف غير اشتمام رائحة التآمر على الأوطان والمشاركة فيه والقبول به، برضى منهم أو على مضض؟

لهذا لا أعتقد أن حكامنا طيبو النية ومغفلون كالثيران الثلاثة، كما يرى بعض ناصحيهم الطيبين، بل هم عارفون ومتورطون حتى أذنيهم بالمخطط الذي يُحاك لبلدانهم، بإرادتهم أو بغير إرادتهم، لكنهم مع ذلك يسايرون واضعيه كونهم جزءاً من المخطط. وأظن أن المفكر التونسي الدكتور منصف المرزوقي قد أصاب كبد الحقيقة عندما عنون كتابه الشهير بـ«الاستقلال الثاني» على اعتبار أن بعض الأنظمة التي حلت محل الاستعمار لم تكن في معظمها سوى أذناب وأدوات محلية للمستعمرين الراحلين، وبقيت تنفذ مخططاتهم حتى الآن بالرغم من تدثرها بأثواب وطنية مزعومة.

لقد ابتلي عالمنا العربي منذ زمن بعيد بأنظمة آخر ما يهمها المصلحة الوطنية لبلدانها. ولعل أكثر ما يميز الكثير من دولنا العربية ندرة الحاكم أو النظام الوطني الحقيقي. فلو نظرنا حولنا لوجدنا أن هناك الكثير من المقاولين على الأوطان الذين يعملون بوظيفة حكام. إنهم،كما وصفهم المفكر التونسي هشام جعيط، ليسوا أكثر من وكلاء. وهؤلاء لا هم لهم سوى المقاولة على بلدانهم وأوطانهم، كما لو كانت سلعاً تجارية قابلة للبيع والشراء والمتاجرة والتأجير.

ولعل أسلوب بعضهم في إدارة بلدانهم على طريقة المزارع الخاصة والحلقات الضيقة جداً أقوى دليل على استرخاصهم لأوطاننا والعبث بها وتبديد ثرواتها. لهذا لا عجب أن يكون موقفهم مما يُخطط لبلدانهم كموقف الثور الأحمر، مع فارق كبير وهو أن الأخير،كما رأينا، تآمر على الثورين الأبيض والأسود من فرط سذاجته وقصر نظره، أما بعض أنظمتنا، كما أسلفت، فهي تعرف البئر وغطاءه، لكنها منخرطة في اللعبة، لأنها لا تمثل إلا ذاتها، ولا تجد لنفسها من مخرج للنجاة بجلدها سوى التواطؤ مع القوى الخارجية.

وأخشى أن يكون هذا الاحتمال الأخير أقرب إلى الصحة، فهذه ليست المرة الأولى التي يتآمر فيها الحاكم العربي على وطنه ويقدمه للغزاة على طبق من ذهب. ألم يرتكب الخليفة المستعصم بالله خطأً فادحاً عندما اعتقد أن هولاكو لن يستكثر عليه حكم بغداد عندما اجتاح بلاد الرافدين بجحافله الوحشية، فإذا بالمغول ينقضّون على عاصمة العباسيين بعدما حرقوا عموم العراق ليطير معها ذلك الخليفة البائس؟

لماذا يصف بعض أنظمتنا المقاومين العرب في لبنان وفلسطين بأنهم مقامرون، متناسين أن الذي يقامر على الأوطان ويرهن ثرواتها ومقدراتها للطامعين بها هي الأنظمة ذاتها وليس الذين يذودون عن حماها في وجه التتار الجدد؟ كيف تختلف الحكومات العربية عن الخليفة المستعصم بالله، ذلك المقامر الذي خسر بغداد بمقامراته ومتاجراته وصفقاته السخيفة؟

الاختلاف الوحيد أن المستعصم كان ساذجاً كالثورين الأسود والأحمر ظناً منه أن هولاكو سيبقيه على عرشه في بغداد. أما بعض حكامنا فهم ليسوا سذجاً،(وكم أتمنى لو كانوا كذلك، لكان ذلك أرحم وأشرف لهم عندما يسطر المؤرخون سيرتهم) لا بل إن الكثير منهم، للأسف الشديد، تجار أوطان على طريقة تجار العقارات ومؤجريها. هل يعقل إن بعض الأنظمة العربية مستعدة أن ترهن الأرض وما عليها، لا بل تغض الطرف عن استباحتها ونهب خيراتها وتقسيمها بين الغزاة، من أجل مصالحها الخاصة والحفاظ على مواقعها.

لكن من قال إن حكامنا لا يتعظون من قصص كليلة ودمنة الرائعة التي جاءت على ألسنة الحيوانات؟ صحيح أنهم ضربوا عرض الحائط بموعظة الثيران الأبيض والأسود والأحمر، لكنهم، من الواضح، اتعظوا كثيراً بقصة الأسد والذئب والثعلب الذين خرجوا معاً للصيد ذات مرة فعادوا بثلاث غزلان. وعندما أرادوا أن يتقاسموها سأل الأسد الذئب: كيف نتقاسم هذه الفرائس، فقال الذئب: لا داعي للخلاف: واحدة لك وواحدة لي وواحدة للثعلب، فخبطه الأسد، فأطار رأسه، ثم سأل الثعلب: كيف نقسم الغزلان، فأجاب الثعلب: الأولى لإفطارك والثانية لغدائك والثالثة لعشائك، فقال الأسد: ومن علمك الحكمة يا ثعلب، فقال الأخير: رأس الذئب الطائر.

وهكذا، على ما يبدو، أمر حكامنا، لقد تعلموا الدرس جيداً من تجربة صدام حسين، فأصبحوا مستعدين للمشاركة بالمؤامرات على بلدانهم والقبول بها كي يحافظوا على رؤوسهم من همجية الأسد الأمريكي، فلم يكتفوا بتكرار تجربة الثيران الثلاثة بحذافيرها، بل تمادوا في تحريفها كثيراً. لقد تآمر الثور الأحمر مع الأسد الكاسر على شقيقيه الأبيض والأسود، وهذا سئ بما فيه الكفاية، لكنه أصبح الآن مستعداًً لأن يتآمر على نفسه، حتى لو جعل ابن المقفع يتقلب في قبره!