خلال مؤتمرها الصحفي في وزارة الخارجية في الحادي والعشرين من
يوليو 2006، سُئِلَت كونداليزا رايس عن المبادرات التي تعتزم أخذها معها لإحلال السلام في لبنان. أجابت: "ليس لديَّ اهتمام بالدبلوماسية من أجل إعادة لبنان وإسرائيل إلى الوضع السابق... أعتقد أن مثل هذا سيكون خطأً... ما نراه هنا، بمعنى من المعاني، هو تطوّر الولادة العسيرة لشرق أوسط جديد، وأيّاً كان ما نقوم به، يجب أن نكون على يقين من أننا ندفع نحو شرق أوسط جديد لن يؤدي إلى القديم". هناك رؤية من واشنطن تؤكِّد أن ما يحدث اليوم في لبنان لا علاقة له بأي شكلٍ من الأشكال باستعادة الجنديين اللذين أسرهما حزب الله. اللب الجوهري في الهجوم تنفيذ نظرية "الفوضى البنّاءة" التي تمت رعايتها وتغذيتها من أمدٍ طويل.

وطبقاً لما ذكره المتخصّصون بفكر الفيلسوف ليو شتراوس، الذي يُعد أحد أكبر أساطين "المحافظين الجُدد"، فالسلطة الحقيقية لا يمكن ممارستها إذا ما بقي المرء في حالة ثبات، أو حافظ على الوضع الراهن، بل على العكس، ينبغي العمل على تدمير كل أشكال المقاومة. الفكرة باختصار: إغراق الجماهير بالفوضى كيّ تتمكن الصفوة من ضمان استقرار وضعها. أيضا، حسب رأي الخبراء بفكر ليو شتراوس، بهذا العنف فقط يُمكن أن تندمج المصالح الاستعمارية للولايات المتحدة مع المصالح الاستعمارية للدولة العبرية.

الإرادة الإسرائيلية التي نشاهدها الآن لتفكيك لبنان، وإنشاء دولة مسيحية صغيرة بدلاً منه مع ضم جزء من أراضيه، ليست جديدة. لقد أعلن هذا ديفيد بن غوريون عام 1957 في رسالة شهيرة نشرت كملحق في مذكراته التي صدرت بعد وفاته. لقد أضيفت فكرته هذه إلى مشروع استعماري واسع للشرق الأوسط كتب عام 1996 تحت عنوان: "كسر نظيف: استراتيجية جديدة لتأمين المملكة (إسرائيل)". تلك الوثيقة، التي كتبتها مجموعة من مفكري المحافظين الجدد (IASPS) قد هيئت من قبل فريق من الخبراء جمعهم ريتشارد بيرل ثم أعطيت لبنيامين نتنياهو. باختصار إنها تمثل أفكار وأطروحات الصهيوني فلاديمير جابوتينسكي. تدعو الوثيقة إلى:

 إلغاء اتفاقيات أوسلو للسلام.

 القضاء على ياسر عرفات.

 ضم الأراضي الفلسطينية.

 الإطاحة بصدام حسين لزعزعة استقرار سوريا ولبنان في سلسلة من الأحداث.

 تفكيك العراق وإقامة دولة فلسطينية على أراضيه.

 استخدام إسرائيل كقاعدة تكميلية لبرنامج حرب النجوم الأمريكي.

ثم جاءت محتويات هذه الوثيقة في الخطاب الذي ألقاه بنيامين نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي في اليوم التالي لاستلامه لها. جميع عناصر الوضع الحالي في الشرق الأوسط موجودة هناك في تلك الوثيقة بما فيها المطالب بضم القدس الشرقية.
هذا الرأي يلتقي مع موقف الإدارة الأمريكية المُتمثِّل بالسيطرة على المناطق الغنية بالنفط التي حددها زكينيف برزيزينسكي، وبرنارد لويس باسم "قوس الأزمة". بمعنى آخر القوس الممتد من خليج غينيا إلى بحر قزوين المار بالخليج، يتطلب إعادة تعريف للحدود والدول والنظم السياسية: "إعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير"، إذا ما أردنا استخدام تعبير جورج دبليو بوش.

هذا هو الشرق الأوسط الجديد الذي تدّعي الآنسة رايس أنها القابلة المأذونة التي تتولى شؤون مراقبة ولادته العسيرة.
الفكرة بسيطة: استبدال الدول الموروثة عن انهيار الإمبراطورية العثمانية بكيانات أصغر تتسم بأحادية الطابع العرقي، وتحييد هذه الدويلات بجعل كل واحدة منها ضد الأخرى على نحو مستمر. بعبارة أخرى، الفكرة تتضمن إعادة العمل بالاتفاقيات السرية المبرمة عام 1916 بين الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، اتفاقيات سايكس - بيكو، وإقامة سيطرة أنجلو ـ ساكسونية مُطلقة على المنطقة. لكن من أجل تحديد الدول الجديدة، لا بد أولاً من تدمير الدول القائمة. هذا ما تقوم به إدارة بوش وحلفاؤها منذ 5 سنوات بحماس لا نظير له مِن قِبَل السَحَرة المبتدئين في تعلّم المِهنة. لنحكم على النتائج:

 الأراضي الفلسطينية المحتلة قُلِّصَت بنسبه 7%.

 قطاع غزة والضفة الغربية مفصولان بجدار. السلطة الفلسطينية دُمِّرَت، وزراؤها ونوابها خُطِفوا وسُجِنوا.

 أمرت الأمم المتحدة بنزع سلاح لبنان، وطرد القوات السورية، وحل حزب الله. رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري اغتيل واختفى معه النفوذ الفرنسي. البنية الاقتصادية للبلد دُمِّرَت تدميراً تاماً، وأكثر من 500.000 لاجئ إضافي يجولون المنطقة.

 ديكتاتورية صدام حسين في العراق استُبدِلَت بنظام أشد قسوة ووحشية بات مسؤولاً عن أكثر من 3000 قتيل شهريا. البلد في فوضى عارمة وهو على حافة التمزق إلى ثلاثة كيانات مستقلة.

 إمارة طالبان الزائفة فُسِحَ لها الطريق لتتحول إلى ديموقراطية زائفة تحت حكم أشد ظلامية في تفسير الشريعة، مع إضافة الخشخاش للديموقراطية الجديدة كأحد معالم الثقافة. كأمر واقع، أفغانستان قُسِّمَت أصلاً بين مختلف أمراء الحرب، والقتال يتَّسِع وينتشر. لقد تخلّت الحكومة المركزية عن سعيها أن تكون مُطاعة حتى في العاصمة.

في واشنطن، يكاد تلاميذ ليو شتراوس يفقدون صبرهم بتعميم الفوضى إلى السودان وسوريا وإيران.
في هذه المرحلة الانتقالية، لم يعد أحد يتحدث عن "ديموقراطية السوق"، إنما عن الدماء والدموع فقط.

جاك شيراك الذي أراد أن يتدخّل في لبنان للدفاع عن المصالح الفرنسية، قام بإرسال رئيس وزرائه، دومينيك دو فيلبان إلى هناك، لكنه اضطُرَّ للتخلي عن طموحه: فخلال قمة مجموعة الثماني في سان بطرسبورغ، حرمه جورج دبليو بوش من ذلك الطموح بالقول: هذه ليست عملية إسرائيلية وافقت عليها الولايات المتحدة، لكنها عملية للولايات المتحدة نفذتها إسرائيل.

وهكذا لم يَكُن لدى دو فيلبان شيئاً يقوله لمحاوريه في بيروت سوى كلمات عاجزة.
بعبارة أدق، مشروع تدمير لبنان قد قُدِّمَ من تساهال إلى إدارة بوش قبل العام الماضي بقليل، طبقاً لما أفادت به سان فرانسيسكو كرونيكل. لقد كان الهجوم جوهر مناقشات سياسية جرت في المنتدى العالمي السنوي الذي نظَّمه معهد أمريكان إنتربريز إنستتيوت، في السابع عشر والثامن عشر من يونيو 2006 ببلدة بيفر كريك. لقد اجتمع بنيامين نتنياهو وديك تشيني مطولا مع ريتشارد بيرل وناتان شارانسكي لإعداد خطة الهجوم. وبعد بضعة أيام مُنِحَ الضوء الأخضر من البيت الأبيض.

وزارة الدفاع الأمريكية هي التي تشرف على عمليات تساهال العسكرية، وهي التي تُحدِّد الأسس الاستراتيجية واختيار الأهداف. الدور الرئيسي يلعبه الجنرال بانتز كرادوك بصفته قائداً عاماً للقيادة الجنوبية. ومثلما ظهر خلال عملية عاصفة الصحراء، وقيادته القوات البرية التابعة لحلف شمال الأطلسي في كوسوفو، فإن كرادوك هو اختصاصي بالمدرعات. وهو الرجل الذي يحظى بثقة دونالد رامسفيلد وقد كان رئيساً لفريق مستشاريه، ومن أجل رامسفيلد قام بإعداد معسكر جوانتانامو. في نوفمبر المقبل سيتم تعيينه قائداً للقيادة الأوروبية وحلف شمال الأطلسي. في موقعه الجديد هذا يمكن أن يُستدعى لقيادة القوات التي تعمل في أفغانستان والسودان وقوة حلف شمال الأطلسي التي قد يتم نشرها في جنوب لبنان.

لقد تعلَّم جنرالات إسرائيل والولايات المتحدة كيف يتعرفون على بعضهم الآخر منذ حوالي ثلاثين عاما وذلك بفضل اللقاءات المُتبادلة التي ينظمها المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (JINSA) وهو مؤسسة تفرض على كبار العاملين فيها متابعة كافة الحلقات الدراسية والندوات المتعلقة بأفكار وأطروحات ليو شتراوس.