إنها ليست استراحة، أو هدوء داخل صخب الحياة، لأن الأعياد نوافذ مشرعة داخل "زمن العولمة" نقتبس فيها ألوان متفرقة؛ توضح أن "العيد" يكسر اليوم شكل التقليد وينزاح نحو اعتياد اللحظات او المناسبات. ففي اللحظة التي نستقبل فيها "الرسائل القصيرة" ندرك أننا نحتاج لصياغة ثقافة جديدة، ربما نلغي فيها إدراكنا للحظات ونبدأ زمنا افتراضيا تضع فيه الاتصالات قواعد الحياة الاجتماعية، أو حتى العلاقات التي كانت تتوج أيام العيد.

والمسألة ليست انتقاصا من واقع الاتصالات الذي جعل "الرسائل القصيرة" عنوانا واحدا للتواصل في لحظة العيد، لكن هذه السمة تتناقض مع الصور التي تكدست في الذاكرة عن "العيد" ويكرسها الإعلام ضمن شكل بروتوكلي، يحاول فيه تذكر "الماضي" أو جعله نقطة لظهور التناقض مع الحاضر. فاستلام الرسائل على الهواتف النقالة لم يشكل بديلا عن اللقاء المباشر، لكنه في نفس الوقت أعطى صورة جامدة لاجتماعات لاتتم إلا في لحظات الأعياد. فالرسائل القصيرة تقدم برهانا على أن هناك من يملك أرقامنا لكنه لا يتذكرنا، بينما تصبح اللقاءات الاجتماعية صور مكررة لأسئلة باهتة نعرف إجابتها مسبقا، لأنها تملك جوابا واحدا أيضا.

هذه الثقافة "الهجينة" ظهرت كصورة عائمة في المجتمع السوري الذي تأقلم بسرعة مع تقنية الاتصالات، وانسجم مع واقع خلف تباعدا اجتماعيا بينما بقيت صور "الأعياد" القديمة ظاهرة في الإنتاج الثقافي. فما يبدو اليوم أن "تبادل" الرسائل يعبر بشكل واضح عن انتهاء لحالة أرادت جعل الأعياد علاقة "حارة" تنهي أي نوع من التوتر على الصعيد الاجتماعي الضيق، وتخلق "فرحا" خاصا في المساحة العامة.

فالرسائل القصيرة هي "واجب" اجتماعي يستطيع أي شخص أن ينهيه بشكل سريع ودون عناء، والمعايدات التقليدية هي واجب أيضا لكنه يتطلب شرطا إضافيا يتجسد في اللقاء المباشر، أو التواصل التفاعلي حسب مصطلح "الاتصالات"، أي انه يحمل الجانب الإنساني الواسع الذي يظهر في "القيم" التي اقترنت بالعيد، سواء عبر ما تقدمه الأديان، أو حتى العرف الاجتماعي، فحتى الطقوس القديمة لديانات الشرق القديم تظهر الأعياد في نهاية الأعوام كنهاية مرحلة، والعودة إلى "الزمن البدئي"، للانطلاق من جديد نحو "العام" الجديد، او مرحلة ما بعد العيد.
والسؤال الذي يظهر أمام كم "المعايدات" على هواتفنا النقالة هو عن الصورة الثقافية التي تبدو اليوم غائمة، لكنها تتبلور مع مرور الزمن والتباعد الجغرافي او حتى الإنساني داخل مجتمعاتنا، فعندما يصبح الأصدقاء "صورا افتراضية"، أو نقلة سريعة على الهاتف النقال، فلا بد ان نعود لنسأل عن حقيقة ما نتمسك به من معنى العيد , ومن "بقايا" العيد القديم؟! فالمشكلة ليست في ظاهرة ربما يعتبرها البعض عادية، بل أيضا في الحالة الجديدة التي تبدو انها "ثورة" في شكل المعايدة، وهي في العمق رغبة في التحرر من "الواجب" دون وجود أي بديل حياتي للعلاقات التي فقدناها على امتداد زمن الدخول في العالم المعاصر!

فعندما كان العيد تعبيرا أعلى عن المشاعر الإنسانية، كانت الأبواب تنهار امام قدومه ليصبح مناسبة تخترق الجميع، وكان بإمكان العلاقات الاجتماعية ان تبدو بصورة جديدة، وهذا ما تحاول الدراما السورية تقديمه في بعض الأحيان، عندما تعيدنا إلى "قيم الحارة" قبل قرن من الزمان، ويبدو "العيد" إحدى مقومات الحياة فيها.

ورغم "انغلاق" هذه القيم لكنها على الأقل كانت منسجمة مع نفسها، بينما يبدو الأمر في واقعنا معاكسا تماما. فالانغلاق الذي انتهى مع "المدينة" و وأشكال الحداثة في الحياة لم يلامس عمق تفكيرنا ولم يبدل ثقافتنا التي وجدت نفسها "تمارس" المعاصرة، وفي نفس الوقت تغلق على نفسها أبوابا جديدة تمنع اكتمال الصورة لطبيعة العلاقات الاجتماعية.

الرسائل القصيرة في الأعياد نافذة نعبرها اليوم، مختصرين مساحة المشاعر الإنسانية، أو نعيد بها إنتاج حالة "العزلة" داخل الحارات القديمة، فنغلق على انفسنا وعلى "حريمنا" عبر إنهاء زمن العيد بكلمة نستطيع قراءتها في كل ما حولنا، ولكن يصعب علينا تذكر من أرسلها، أو كتبها أو حتى قرر عبرها إنهاء واجب اجتماعي، والتمتع بعزلة عبر تقنية كان من المفترض أن تخلق التفاعل والتواصل بدلا من الانكفاء.