ليس من شك في أن تاريخ لبنان السياسي هو، في جانب أساسي منه، تاريخ تسويات متعاقبة. فزعماء الطوائف المتعايشة والمتناحرة على أرض واحدة بحاجة دوما إلى صيغة توافقية لتأمين مصالحهم الطبقية الضيقة على حساب قيام الدولة الديموقراطية العصرية التي تشكل إحدى سمات تاريخه الحديث والمعاصر.

ودون الغوص في مشكلات بناء الدولة الحديثة في لبنان، شهدت المرحلة الممتدة من قيام دولة لبنان الكبير عام 1920 حتى الآن تسوية تاريخية مركزية رافقتها تسويات جانبية إبان الأزمات السياسية العابرة التي كانت تهدد وحدة لبنان واللبنانيين.
بدأت التسوية التاريخية والأهم في مواجهة سياسة الإنتداب الفرنسي الذي أنشأ ركائز لدولة واحدة تجمع زعماء الطوائف اللبنانية. ولم تكن لهؤلاء رؤية واحدة وموحدة حول أهمية بناء الدولة الحديثة في توحيد المجتمع اللبناني وجعله قادرا على مواجهة تحديات الحداثة. فقد كان زعماء الطوائف ينظرون إلى دولة لبنان الكبير بعيون طائفية متجاهلين الأسس النظرية والعملية لمؤسسة الدولة من حيث هي شعب حر، وسلطات عصرية، وحدود جغرافية معترف بها دوليا.

فمنهم من رأى فيها نوعا من الترضية السياسية لزعماء الطوائف التي تعاونت تاريخيا مع الغرب الأوروبي، وبشكل خاص الفرنسي. لذلك أطلقوا عليها صفة "الدولة المصطنعة" أو "صنيعة الإنتداب"، ودعوا إلى إزالتها حتى تستقيم مسيرة "الدولة القومية" ببعديها القومي السوري أو القومي العربي الشمولي. وقد إنطلقت تلك النظرة من موقع الريبة لدى زعماء الطوائف الإسلامية التي كانت تخشى من أن تحتل مرتبة أدنى من زعماء الطوائف المسيحية في الدولة الجديدة.

لكن سياسة الإنتداب الفرنسي راوحت بين بناء مؤسسات عصرية كالدستور، والجمهورية، وبناء الإدارة الحديثة على قاعدة قوانين عصرية، وتأمين مصالح الإحتكارات الفرنسية على حساب جميع اللبنانيين، وعلى إختلاف طوائفهم. وكانت تلك السياسة كفيلة بتقريب مواقف زعماء الطوائف والأحزاب اللبنانية بصورة تدريجية حتى أن الزعيم الماروني الأكثر تشددا، اي إميل إده، ساند ترشيح رئيس مجلس النواب آنذاك، الشيخ السني محمد الجسر، لرئاسة الجمهورية، مما دفع المفوض السامي إلى تعطيل الدستور عام 1932. فرد الزعماء اللبنانيون بالدعوة إلى إعادة الدستور وإنقسموا ضمن كتلتين كبيرتين: الكتلة الدستورية والكتلة الوطنية. وضمت كلتاهما زعماء من جميع الطوائف والمناطق.

لقد غلب زعماء لبنان في تلك الفترة مصلحة لبنان العليا في الحرية، والسيادة والإستقلال دون أن يتخلوا عن مصالحهم الشخصية. وأقاموا تحالفات داخلية وإقليمية متنوعة على أسس سياسية لا طائفية، تضمن سيادة لبنان ضمن حدوده التي رسمها الإنتداب، على أن تحل سلطة وطنية مكان سلطة الإنتداب، وبأسرع وقت ممكن.

لم يكن شعار الدفاع عن مصالح الطوائف مألوفا آنذاك رغم أن زعماء تلك المرحلة كانوا بارزين ضمن طوائفهم. لذلك كانت التسوية التاريخية بتغليب السياسي على الطائفي، والوطني على الشخصي، مهمة جدا وأثبتت قدرتها على الصمود طويلا، وإبقاء إختلاف المصالح في ما بينهم ضمن الدائرة السياسية وليس الطائفية. وبقي الإصطفاف السياسي، للقادة والمحازبين معا، سياسيا وليس طائفيا. ونجحت تلك الصيغة في التقريب بين اللبنانيين خاصة في الأزمات الكبيرة، وبشكل خاص في المعارك المطلبية، والدعوة إلى إعادة العمل بالدستور بعد تعطيله، وفي خوض معركة إبدال الإنتداب بمعاهدة عام 1936.

وتوجت تلك التسوية بنجاح معركتي الإستقلال والجلاء حيث انحازت غالبية القيادات اللبنانية، من مختلف الطوائف، إلى جانب شعار الإستقلال، وقيام الدولة المستقلة والمتحررة من قيود الإنتداب.

إلا أن بعض القوى التي خاضت معركتي الإستقلال والجلاء سرعان غلّبت مصالحها الضيقة على حساب مصالح قوى أخرى كانت متحالفة معها، وعلى حساب بناء الدولة الديموقراطية العصرية في آن واحد. فجاءت إنتخابات 1947، وهي الإنتخابات النيابية الاولى في عهد الإستقلال، لتقدم نموذجا بشعا في كيفية إستغلال النفوذ، وتزوير الإرادة الشعبية بهدف التمديد والبقاء في سدة الرئاسة أطول فترة ممكنة. مع ذلك، استطاع تحالف قوى المعارضة خوض معركة سياسية ناجحة لم تظهر فيه أية إصطفافات طائفية، فتم إسقاط رئيس الجمهورية قبل أن يكمل ولايته الثانية.

ولم يبتعد الرئيس كميل شمعون عن إطار تلك السياسة غير الطائفية. فتسلم رئاسة الجمهورية عام 1952 متوجا بلقب " فتى العروبة الأغر". إلا أن ميله لتجديد ولاية ثانية لم يلق ترحيبا من القوى المحلية، ولا المساندة الكافية من الدول الخارجية. فإنتهى عهده بثورة شعبية تميزت بزيادة تأثير العاملين الإقليمي والدولي في الشؤون اللبنانية.

كانت التسوية التاريخية بين زعماء الطوائف اللبنانية من جهة، والظروف الإقليمية والدولية ملائمة لبناء دولة حديثة تمتلك طاقات بشرية ومالية كبيرة لم تكن متوافرة لدى دول الجوار. فأنتجت سياسة تغليب الصراع السياسي على النزاعات الطائفية بحبوحة كبيرة في ظروف نزوح الكثير من الرساميل الفلسطينية إلى بيروت، وتدفق الأموال النفطية إلى مصارفها وإلى جانبها أموال المهاجرين اللبنانيين والمصطافين العرب.

إلا أن السنوات التي سبقت إندلاع الحرب الأهلية عام 1975 حملت معها سلبيات كثيرة على المستوى الإقتصادي عبر أزمة بنك إنترا، والسياسي عبر تحكم الأجهزة العسكرية بشؤون الحكم وقيام تحالف طائفي بإسم "الحلف الثلاثي" لمواجهة سياسة "النهج الشهابي". هذا بالإضافة إلى العامل الإقليمي الذي تجلى بضرب إسرائيل الاسطول الجوي اللبناني على أرض مطار بيروت عام 1968، وإتفاق القاهرة الذي أباح حرية العمل الفلسطيني الفدائي عبر جنوب لبنان، ودعوة زعماء الطوائف والأحزاب اللبنانية إلى تسليح أفرادها تحسبا لإنفجار وشيك.

لقد حدث الإنفجار فعلا منذ عام 1973 ثم إتسعت دائرته عام 1975، وإمتد حتى عام 1989، وما زالت نتائجه السلبية مستمرة حتى الآن. فإنهار الجيش اللبناني، وتفككت السلطات والإدارات اللبنانية، ونسفت ركائز التسوية التاريخية، وأعيدت صياغة الحياة السياسة في لبنان على قاعدة الإصطفاف الطائفي المقرون بذهنية الميليشيات والعداء للدولة. وحين توصل زعماء الطوائف والميليشيات إلى إتفاق الطائف لعام 1989، بمباركة عربية وأميركية بالدرجة الأولى، كان لديهم اقتناع تام بأن الدولة الجديدة لن تبتعد كثيراً عن تلك التي كانت سائدة ايام الحرب الأهلية.

فزعماء الحرب هم أنفسهم زعماء السلام. وقادة الميليشيات أصبحوا قادة دولة هشة دمجت الميليشيات بأجهزة الدولة. فسادت ذهنية الميليشيات على مختلف الصعد. وجرى التلاعب بالمال العام، وإرتفع الدين العام بشكل عمودي حتى قارب 45 مليار دولار في 2006.

تجدر الإشارة إلى أن موقف الجيش اللبناني في الأزمة السياسية المتفاقمة في لبنان يقدم الدليل حتى الآن على أن بناءه قد تم على أسس وطنية لا طائفية. وهو يشكل صمام الأمان لضمان الأمن والإستقرار لجميع اللبنانيين، على إختلاف طوائفهم ومناطقهم.
إنطلاقا من ثبات الركيزة الأمنية على أسس وطنية جامعة وغير طائفية يمكن الإنطلاق مجددا لبناء تسوية تاريخية جديدة، بالسرعة الممكنة ودون تسرع.

وتقدم تجربة إنقسام الجيش عام 1976 الدليل القاطع على أن الطائفية قادرة على تفكيك الجيش والقوى الأمنية. وهي آخر الخطوط الحمر التي تسبق إنهيار الدولة اللبنانية بصورة نهائية.

تجدر الإشارة هنا إلى أن جميع الساسة اللبنانيين، على إختلاف ميولهم وطوائفهم، يجمعون على حياد الجيش اللبناني، ومناقبية قادته وأفراده، ويبدون حرصهم الشديد على تجنيب لبنان واللبنانيين الفوضى والنزاعات الطائفية المدمرة. وذلك يتطلب أن يبني هؤلاء الساسة ركائز ثابتة للتواصل بين اللبنانيين تمنع إنفجار النزاعات الطائفية. لذلك لا بد من أن تقوم تسوية تاريخية جديدة على أسس سياسية لا طائفية.

وقد برز إصطفاف سياسي جديد في الأزمة الأخيرة يخترق جميع الطوائف والمناطق. وهو إصطفاف مشروع شرط الإستناد إلى مبادىء الديموقراطية وضمان الحريات العامة والخاصة داخل كل طائفة، وحق كل فرد فيها في التعبير عن آرائه بحرية تامة. ولا يجوز لزعيم الطائفة أن يختزل طائفة بأكملها ويلغي كل القوى المعارضة داخلها ثم يقدم نفسه حاميا للديموقراطية في لبنان. فهذه السياسية هي "ديكتاتورية مقنعة"، أو "ديموقراطية شقوق الطوائف"

على حد تعبير ميشال شيحا، مهندس الديموقراطية اللبنانية، والمنظر الأول للبورجوازية في لبنان.

إن تغليب الصراع السياسي على النزاعات الطائفية يعتبر تطورا بالغا الأهمية في مسار التسوية اللبنانية الممكنة في المرحلة الراهنة. وهي تسوية مرحلة فقط على غرار "إتفاق الطائف"، ولا يجوز أن تبنى عليها أوهام كثيرة. فهدفها نزع فتيل الصدامات الطائفية في الشارع، مع العمل الجدي لبناء دولة القانون والمؤسسات التي أصيبت بإنهيار كامل في زمن دولة الميليشيات والتهييج الطائفي. كما أن المشكلات الإقتصادية والإجتماعية والتربوية قد تفاقمت إلى الحدود القصوى من جراءالسيطرة التي يمارسها زعماء الطوائف على مؤسسات الدولة اللبنانية.

ختاما، إن التسوية التاريخية بين التيارات السياسية المتناحرة في لبنان ممكنة إنطلاقا من تغليب الصراع السياسي على الصراع الطائفي، وتماسك الجيش على أسس وطنية، ورغبة اللبنانيين في تجنب النزاعات الطائفية المدمرة، وحرص الدول الشقيقة والصديقة على وقف الإنزلاق في إتجاه الحرب الأهلية. وليس من شك في أنها تسوية مرحلية فقط لأن الأزمة المتفاقمة في لبنان تحتاج إلى حلول جذرية، وبناء دولة عصرية قادرة على مواجهة مخاطر تجدد الإحتلال الإسرائيلي وسلبيات مشاريع العولمة التي تهدد بإنفجار منطقة الشرق الأوسط بأكملها.