أصبح لا بدّ مما ليسَ منه بدّ، وهو انهاء الاعتصام القائم في الوسط التجاري. فالمَضارب التي تشلّ عصب العاصمة منذ شهرين تجعل التغيير الحكومي مستحيلاً، وليس العكس.

بعد شهرين من احتدام المواجهة، تأكد عجز أكثرية 14 آذار عن النهوض بأسباب الحكم، فيما تأكد عجز قوى التحالف الذي يقوده حزب الله عن الاتيان بانقلاب يقال إنه ميسّر وسهل، ولا يحتاج لأكثر من كبسة زرّ.

اكتفت 14 آذار بنصف انقلاب، يوم تردّدت بالاطاحة بإميل لحّود ويوم أخفقت في ذلك. أما قوى 8 آذار، فمشكلتها منذ نهاية الحرب الأخيرة، أنها تهدّد بانقلاب كامل، وتتعفف عنه في الوقت نفسه. تقول إنه يمكنها انتزاع كل السلطة، ولا تطالب الا بالثلث المعطل، أو أدهى، بانتخابات نيابية مبكرة، لا نعلم كيف لها أن تجري في ظل ما تشهده البلاد من احتقان أهلي وأمني، إلا إن كان المطلوب أن يصمّم حزب الله بنفسه العملية الانتخابية، قانوناً وتنظيماً وتوزيعاً للصناديق واحتساباً للنتائج، أو أن يوكل الأمر للأمم المتحدة؟!

أفضى نصف انقلاب 14 آذار، الى حكومة لا تحكم فعلاً، لا ان شارك فيها حزب الله، قارئاً بيانها الوزاري بالطريقة التي يستحسنها، ولا اذا ما خرج حزب الله منها وعليها، في حركة اعتراضية، هي في جانب منها «موالاة» لرئيس جمهورية صدر قرار دولي بحقه وتقترب مدّة التمديد له من نهايتها. وهي في جانبها الآخر، قذف بشرعية حكومة ليس هناك مرجع دستوري صالح لجهة الفصل بأمر شرعيتها من عدمها، في بلد تمت فيه «صوملة» القانون الدستوري قبل صوملة الوضع الأمني وتمهيداً لذلك.

لا يستوي عجز الحكومة وعجز المعارضة. فالأخيرة تهدّد بانقلاب وتتعفّف عنه في آن. كلما اقتربت منه راحت تتجنبه، وحين تسارع اليه فعلاً ثمة من يقطع عليها الطريق من دون لأي.

يتفرّس «المعارض» في وجه خصمه، ويقول له: سأريك نجوم الظهر. ثم يعدل عن ذلك رأساً ويقول له: لا، لن أريك اياها، فتفضل باعطائي ما لي عندك، كي لا أريك نجوم الظهر. حتى اذا ضاق الخصم ذرعاً وأهاب بالمعارض أن يريه نجوم الظهر، تحسّب له الأخ المعارض وقال: أتريد جرّي الى الفتنة يا هذا، لا وألف لا، لن أريك اياها. سأريك نجوم الظهر قبل أن أريك نجوم الظهر!!

يقول المعارض: حسناً، لي أن أنقلب عليك، وأنت تعلم أنه بمقدوري ذلك. إذاً، فهلا تفضلت بمنحي النتائج العملية والمعنوية لهذا الانقلاب، بالتي هي أحسن؟ الحسبة هنا أنه بالامكان قطف ثمار الانقلاب مع الاكتفاء بالمناورة به. المفارقة أن من يستعيض عن لحظة حسم واحدة بانقلاب يجيء «تصعيديا»، أي «بالتقسيط» الجامع بين عامل التهويل وعامل السأم، انما هو، بموجب قانون الانقلابات والثورات، طرف يتنازل من أول المطاف عن قدرته على تملك لحظة الحسم المركزية. اذ ليس ما يجمع بين خطة تعدّ لاقتحام «القصر» في أي انقلاب كان، وبين خطة (لاخطة) لفرض الاعياء والسأم على أهل «القصر» وجعلهم يسلّمونه بأنفسهم. ما دام طرفٌ ما اختار السبيل الأخير، فما عاد بامكانه الرجوع، ولو افتراضاً، الى السبيل الأول.

عند هذا الحدّ تحدث المفاجأة. الطرف الذي كان يعدنا بمفاجآت تصبح مهمته فضح مفاجآت أخصامه، فيرذلهم بأنهم ميليشيات ولهم قناصة وما شابه، كما لو أن وِلْد آدم يُخلقون بعين واحدة.

ثم يحدث أن يتفاجأ الحزب المؤطر لطائفة بأسرها بضراوة العامل المذهبي والطائفي في لبنان. يتفاجأ الطرف الذي يملك تقرير الحرب والسلم بازاء عدو الخارج، بأنه ليس وحده الطرف الذي يملك تقرير السلم الأهلي من عدمه في الداخل، فيصير تعامله مع الوضع الأهلي اللبناني أجنبياً للغاية، كما لو أنه هابط للتوّ، وآت من تجربة نقابية سويدية أو ليبرالية بريطانية.
كيف يمكن أن يتفاجأ تنظيم مذهبي بالمذهبية؟ كيف يمكن للطائفية اللبنانية أن تفاجئ نفسها، وتتفاجأ بذلك في الاثر؟
لأن الأمر كذلك، فما عاد الاعتصام القائم في الوسط التجاري لازماً. وإذا كانت المعارضة تريد فعلاً تجنب مناخات التناحر المذهبي والطائفي فعليها بأن تفاجئ السلطة بفك الخيم، وفتح أبواب المجلس، أو على الأقل، التفاوض على الثمن المطلوب لفتح دورة هذا المجلس، وشرط كل ذلك احترام الطبيعة «التجارية» للكيان اللبناني، بسريان مبدأ «خذ وهات» على كل شيء، من تركيبة الحكومة العتيدة الى رئاسة الجمهورية الى المحكمة الدولية الى سلاح المقاومة.