يلفت انتباه المراقب الحركة النشطة للسياسة السورية في الفترة الأخيرة والتي يمكن استنتاجها من خلال الزيارات التي قام بها رؤساء دول ووزراء عرباً وأجانب إلى سوريا، وإرسال موفدين سوريين للقيام بزيارات خارجية خاصة لبلدان أميركا اللاتينية، ورغم أهمية الزيارات بمجرد حدوثها في مناخ المقاطعة الأميركية وغير الأميركية لسوريا، إلا أن الأهم هو محتوى المحادثات والبيانات التي صدرت خلالها وبعدها والتي تضمنت موقفاً سورياً مختلفاً عما كان عليه هذا الموقف في النصف الأول من العام الماضي وما قبله، فضلاً عن مواقف سورية أخرى من الصراع مع إسرائيل ومن الشراكة مع أوروبا و(التحالف) مع إيران، والتنسيق مع البلدان العربية.

زار سوريا في يناير الحالي جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق ومحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية وبرويز مشرف رئيس باكستان وماري ليزين رئيسة مجلس الشيوخ البلجيكي وعلي لاريجاني الأمين العام للمجلس الأعلى القومي الإيراني، كما زارها عدد من الوزراء والمسؤولين الأوروبيين.

ولوحظ أن السياسة السورية تبنت موقفاً معتدلاً أو على الأقل مختلفاً عن مواقفها السابقة تجاه القضيتين العراقية والفلسطينية، وكانت قد صدرت تصريحات عن أكثر من مسؤول سوري تؤكد قبول سوريا استئناف المفاوضات مع إسرائيل بدون شروط مسبقة، وفي الوقت نفسه بدأت السياسة السورية تعمل بدأب لتنقية العلاقات السورية السعودية والسورية المصرية من شوائبها بهدف العودة إلى التشاور والتعاون المشترك.

ويبدو أيضاً أن هذه السياسة تبحث جدياً أو تفكر بالبحث جدياً عن تحديد نقاط اللقاء والاختلاف (وتحديد الثوابت بدقة) مع السياسة الإيرانية سواء في العراق أم في لبنان أم في البلدان العربية الأخرى، وإنهاء مرحلة ترك الحبل على الغارب في هذه العلاقات وتأطيرها في ضوء المصالح السورية، وتحديد الخطوط الحمر لكل من الطرفين السوري والإيراني، خاصة بعد المحادثات الثنائية الإيرانية السعودية.

لوحظ في البيان المشترك السوري العراقي تأكيد الجانب السوري استعداده للوقوف إلى جانب الحكومة العراقية (لتحقيق المصالحة الوطنية ودعم العملية السياسية الجارية في العراق) ولعل هذا الموقف جديد على السياسة السورية التي كانت دائما حذرة تجاه ممارسات الحكومات العراقية منذ الغزو وخاصة تجاه العملية السياسية الجارية التي تراها غير عادلة ومعبرة عن مصالح المحتل الأميركي، كما أدانت سوريا في البيان المشترك الإرهاب الذي يطاول (الأجهزة الأمنية والعسكرية) وهذا أيضاً موقف جديد.

فقد عهدنا البيانات السورية تدين الإرهاب الموجه ضد المدنيين والمنشآت المدنية وتسكت عما عداها، والأمر نفسه تجاه (اجتثاث جذور الإرهاب وتجفيف مصادره) ودعم (مؤتمر المصالحة) و(انخراط النظام العراقي في العمل السياسي الديمقراطي) وتأكيد الاتفاق على (مواصلة التعاون في مختلف المجالات الأمنية) وهذه كلها جديدة على السياسة السورية بهذه الصراحة والمباشرة والوضوح ولا شك أنها بداية تحولات سياسية جديدة تجاه ما يجري في العراق بغض النظر عن أسبابها.

من جهة أخرى يشير المطلعون إلى أن المسؤولين السوريين بذلوا جهوداً هامة وجادة خلال زيارة محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لدمشق لإقناع خالد مشعل وقيادة حماس بتبني موقف معتدل مما يعزز مسيرة الحوار الفلسطيني وإمكانية الوصول إلى حكومة وحدة وطنية، واعترف الطرفان بالجهود السورية وبإيجابية الموقف السوري وبالتالي بالتعديل الواضح على السياسة السورية تجاه ما يجري بين الفلسطينيين من خلافات وتناقضات وعدم اتفاق، وقد كانت سورية تتهم سابقاً بتحيزها لطرف دون آخر.

كما حاول المسؤولون السوريون أن يكونوا خلال الزيارة ـ قدر الإمكان ـ على مسافة واحدة من الطرفين الفلسطينيين الرئيسيين فتح وحماس بل من الأطراف الفلسطينية جميعها، وهذه أيضاً بداية تحولات في السياسة السورية تجاه القضية الفلسطينية بغض النظر عن الأسباب.

وفي مجال الصراع مع إسرائيل أعلن مسؤولون سياسيون سوريون أكثر من مرة استعداد سوريا لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل بدون شروط مسبقة، ومن المعروف أن السياسة السورية كانت تشترط استئنافها من النقطة التي وصلت عندها عام (2000) خلال المحادثات مع حكومة باراك برعاية الرئيس الأميركي كلينتون التي فشلت في حينها، وهذه أيضاَ تشكل تعديلاً كبيراً على الموقف السوري تجاه استئناف المفاوضات وتجاه التسوية مع إسرائيل.

إذا كانت مظاهر الاعتدال هذه صحيحة فلا شك أنها توحي ببداية تحول في السياسة السورية مهما كانت درجة هذا التحول، وهي خطوة على طريق طويل من المراجعة السورية للسياسة السابقة، وربما كانت بسبب اقتناع أصحاب القرار في سوريا بصعوبة الوقوف بوجه الضغوط الأميركية وربما الأوروبية بدون هذا التحول، وصعوبة التغريد خارج سرب الدول العربية المعتدلة وضرورة رمي الكرة في ملعب الآخرين وخاصة الأوروبيين والأميركيين، مما يخفف العبء الملقى على عاتق النظام السوري نتيجة الضغوط الخارجية العربية والدولية وبالتالي الاهتمام بالعمل لتغيير هذه الظروف من خلال اعتدال الموقف السياسي من القضايا الإقليمية وتنظيم العلاقة مع إيران بما يحافظ على استمرار التعاون.

ولكن في حدود المصالح، وتعميق العلاقات الثنائية الخجولة مع بعض البلدان الأوروبية خاصة مع إيطاليا وإسبانيا وألمانيا ذات الموقف من سوريا المختلف عن الدول الأوروبية الأخرى وخاصة فرنسا، فضلاً عن تأسيس علاقات متنامية مع بلدان أميركا اللاتينية.. ويعرف أصحاب القرار في السياسة السورية أن هذه كلها، سواء تعديل السياسة الخارجية أم إعادة النظر بالعلاقات مع الدول العربية والأجنبية هي من المفاتيح الأساسية لتخفيف أعباء الضغوط و(الحصار) والعقوبات الأميركية المفروضة على سوريا.

يبدو أن السياسة السورية تراهن على أن هذا التعديل المفترض سوف يحرج سياسة الإدارة الأميركية تجاه سوريا ويقنع الدول الأوروبية بإعادة العلاقات الطبيعية معها وخاصة توقيع الشراكة التي طال زمن المحادثات حولها، ويعود بالبلدان العربية النافذة للتنسيق مع سوريا بعد برودة العلاقات، ولكن يبقى التساؤل قائماً هل ستكتفي هذه الجهات العربية والدولية بمؤشرات التعديل أم أنها ستطالب بخطوات سياسية أخرى تقود السياسة السورية إلى مزيد من (الاعتدال) وتضطرها للتخلي عما تراه ثوابت في سياستها؟ إن الأشهر المقبلة كفيلة بإيضاح الموقف.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)