من التاريخ السياسي القريب يمكن أن نقرأ أن رغباتنا ربما لا تملك واقعا على الأرض، فالتسلسل الزمني لما حدث في العراق يدفع للذهول من حجم "النوايا" التي بدأت برفض تقسيم العراق والتمسك بوحدته، وانتهت لصراع يضعنا أمام تقسيم بانتظار الإعلان عنه، أو ما حدث في فلسطين حيث تم "تحريم" الدم الفلسطيني، وانتهينا لعمليات الاختطاف المتبادل، أو حتى في لبنان التي تبدو وكأنها المسرح الجديد لاستباحة التعامل ضد إطار "الدولة" بما تملكه من مؤسسات.

ما حدث في لبنان يشكل زاوية للتعامل مع الدولة وفق "إرادة" الفوضى، أو شطب مفهومها من المعادلة التي تحكم علاقات المواطنين وترسم تعاملهم مع الطموح السياسي، وإذا كانت الأحداث يمكن أن ترسم لنا أكثر من جهة مسؤولة حول "تشظي" الدولة" في مناطق الفوضى، فإن اللافت أن "الصيغ" الديمقراطية كانت الغطاء الأساسي لعمليات "التكسير" للدولة ابتداء من العراق، ووصلا إلى "الديمقراطية" في لبنان التي يتم الدفاع عنها "دوليا"، وانتهاء بالسلطة الفلسطينية التي بدأت مشاكلها مع الانتخابات "الديمقراطية"، ومجمل هذه التجارب تدفع للاعتقاد بأن "المعادلة الديمقراطية" على شاكلة "الاكتساح" و "الشطب" تناقض "وجود" الدولة!!

في العراق كانت الصورة فاقعة لأن "قوة الاحتلال" حلت "أجهزة السلطة"، فذابت الدولة بشكل تلقائي لصالح كافة الولاءات السابقة لأي شكل حقوقي معبر عن المجتمع، وبغض النظر عن التفسيرات لما حدث في العراق، لكن المظهر الأساسي كان في "المعادلة" الديمقراطية التي عجزت حتى عن تحقيق ظهور "أجهزة" من الجيش والأمن، وسارعت في تحقيق الانقسام الاجتماعي.

في لبنان كانت الصورة مختلفة، لأن أجهزة الدولة بدأت تتبدل لينتفي معها "التعبير الحقوقي" بشكل تدريجي، وحصل هذا الأمر وفق "المعادلة الديمقراطية" التي شكلت عنوان لبنان في المرحلة الجديدة، فالمعارضة والسلطة في لبنان لا تظهر اليوم ضمن تناقض سياسي، فالطرفين يتبادلان الاتهامات حول احتكار أجهزة الدولة، وباستثناء الجيش فإن الانقسام داخل الشارع اللبناني يظهر على الأقل انكسار "المفهوم العام" للدولة لأنها اصبحت مجال تخاصم بين الطرفين.
داخل السلطة الفلسطينية هناك انتخابات ديمقراطية نتج عنها وصول حماس التي باشرت برسم سلطنها عبر القوة الأمنية، وهو أمر كان متوفرا للجناح الآخر الذي تمثله فتح التي سيطرت على الجهاز الأمني ومؤسسات الدولة، فـ"المعادلة الديمقراطية" داخل السلطة تمثات في القدرة على امتلاك الأجهزة الأمنية والتحكم بها. وهذا الواقع يحمل سمات "مفهوم" الدولة الذي اختلط منذ منتصف القرن العشرين مع باقي المفاهيم الأخرى، فتداخلت السلطة والدولة مع "الأجهزة" وأصبحت "المعادلة الديمقراطية" استبدالا لكافة التداخلات السابقة بـ"وصفة" بسيطة نحمل نتائجها اليوم، ونعيشها داخل "مسرح عمليات" فيه احتمالات مفتوحة.

تصفية "شرعية الدولة" اليوم يشكل ذروة إضافية لأزماتنا المخنوقة داخل الصراعات السياسية، ليصبح التوازن السياسي صراعا على الدولة بدلا من كونه صراع برامج داخل الدولة، فممارساتنا السياسية لا تنظر بحذر إلى أن "الدولة" هي التي تتيح ظهور "المعادلة الديمقراطية"، وأن ممارسة الأدوار السياسية بين معارضة وسلطة محكومة برؤيتنا للدولة بأنها مجال ينظم طبيعة العلاقات داخل المجتمع، فحتى العصيان المدني تحميه الدولة، وهي في النهاية يمكن أن تتفاعل مع الحراك الاجتماعي، لا أن تتكسر بفعل "المعادلة الديمقراطية"!!