مهما بلغت قسوة ما حدث يوم الخميس في لبنان، لكن مكاتب "الحزب السوري القومي الاجتماعي" هي التي احرقت، وهو شكل يمكن النظر إليه برمزية خاصة مع حدة المقالات التي تتحدث عن "صراع مذهبي"... فالعنف عبر عن نفسه بصدامات ظلت بين "طرفين" يمثلهما "أشخاص" داخل الشارع، لكن نهاية اليوم الدامي تجلت بالانتقام من مكاتب "حزب" ربما يكون "الأضعف" داخل المعادلة الكمية التي تحكم انقسام الشارع اللبناني، وهو لا يشكل "الحليف" الأقوى للأطراف الخارجية التي تتهم "قوى 14 آذار" المعارضة بأنها تحتمي في ظلها، وفي النهاية لا يمكن الهروب من أن احراق مكاتب "حزب" ما هو الصورة الأخيرة لمصير الحركات التي لا تنتمي لمعادلة تفرض على أرض الواقع.

"رمزية" الإحراق تبدأ من نقطتين:

  الأولى هي الصورة التاريخية لظهور الأحزاب العلمانية ثم انحسارها... ولا نستطيع هنا إضفاء طابع حدي على الصراع السياسي الذي دفع الفكر العلماني للانحسار، لأن ما حدث عمليا هو عدم قدرة هذا الفكر على إحداث تحول ثقافي، وهذه المسألة مرتبطة بأدوات هذا الفكر الذي استمر منذ ظهور الأحزاب على ساحة الشرق الأوسط محكوم بعملية الفصل الحاد بينه وبين الآخر. هذا المأزق حكم كل المعارك العلمانية، وعلى الأخص بالنسبة للحزب السوري القومي الاجتماعي، فلم يكن المكون الثقافي للمجتمع ضمن حسابات "الأدوات"، وكان يعتبر نفسه "انتصر في نفوس أصحابه" وهو أمر حقيقي، لكن المهم انتصاره داخل الثقافة الاجتماعية .. ربما تناسى أصحاب الفكر العلماني أن أنطون سعادة على سبيل المثال اضطر للكتابة في الدين معترفا بواقع اجتماعي عليه التعامل معه لا الانصياع له. وما حدث أن عنفوان "الحركة العلمانية" بما فيها الحزب القومي" قفزت إلى الصراع السياسي مباشرة، وتجاوزت "المصلحة" الاجتماعية أيضا، فكان الفكر العلماني اهتماما نخبويا، بينما تم تجاهل خلق مصالح حقيقة لهذا الفكر على المستوى الاجتماعي.

  الثانية هي في التصفية الجارية حاليا للجغرافية – السياسية على مستوى المنطقة، فالأمر لا يتعلق فقط في مأزق الأحزاب العلمانية بل أيضا في إنهاء شرعيتها حتى بين المؤمنين بها، لأنها اصبحت "عبئا" على أصحاب "المذاهب" الجديدة – القديمة. وقبل إحراق مكاتب القومي في لبنان حدثت نفس التصفية في العراق وفلسطين. وهذا الأمر يغير من "الجيوبولتيك" في المنطقة.

ما حدث في لبنان لا يغري على تجديد الأدوات، لأن المسألة في اللحظة الراهنة تجاوزت التفكير في إجراء تبديل معين، فهي بالفعل تحتاج إلى إبداع التكوين من جديد، لأن المسألة ليست تنظيرا في الاحتمالات القادمة بل دفاعا عن المجتمع وتنوعه وقدرته على الاستمرار بتفاعل ثقافي بدلا من أساليب "الخنق" الحاصلة اليوم على "المبادرات الحداثية" التي بدأت في القرن الماضي ولم تحسم صراعها حتى اليوم.

مصادر
سورية الغد (دمشق)