من استمع لحوارات طيف من السياسيين والمثقفين الأردنيين مع الملا بختيار مسئول العلاقات الخارجية في الاتحاد الوطني الكردستاني - حزب الرئيس العراقي جلال الطالباني - الذي يزور الأردن حاليا ، ينتابه الذهول لسببين: الأول: حين يلمس لمس اليد ، "جهل" الطبقة السياسية الأردنية بالعراق تركيبا وفسيفساء ، تاريخا وحاضرا ، وبالأخص جهلها بجذور "المسألة الكردية" وفصول تاريخها القديم والحديث ، فتصدر عن بعض المحاورين الأردنيين من الآراء والملاحظات ما يدعو للحرج في بعض الأحيان.

والثاني: سيطرة "المركزية العربية" على مواقف مختلف التيارات السياسية والفكرية الأردنية ، وفي هذا يبدو الأردن جزءا من كل ، فـ "المركزية العربية" ليست ظاهرة أردنية ، بل عربية بامتياز ، وكان لها من التداعيات والآثار على مسألة "الأقليات" في العالم العربي ، ما تسبب بأفدح العواقب وأوخم النتائج ، لأن الأكراد ليسوا عربا ، ولم يهبطوا على جغرافيا الشرق الأوسط بالمظلات من الفضاء من الخارجي ، فمعنى ذلك أنه يحق لأكثر من ستين مليون كردي في هذه المنطقة ، أن يمارسوا حقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم ، فهم أمة لها تاريخ ولغة وثقافة وعادات وتقاليد ، وقد تعايشت مع الأمم الرئيسة الثلاث في المنطقة: العرب والفرس والأتراك ، طوال عقود وقرون من الزمان ، أنشأت دولا وأطلقت ثورات ، ائتلفت وانفصلت مع دول المنطقة وامبراطورياتها ، وهي في مناطق انتشارها الأربع ، تخوض كفاحا لا هوادة فيه ضد التمييز وفي سبيل الاستقلال الذاتي الثقافي وحق تقرير المصير وفقا لمقتضيات الحال المتفاوت في هذه المناطق.

العرب يعتقدون أن الأكراد تجاسروا عليهم بأكثر مما ينبغي ، وما عادوا يطالبون بتقرير المصير سوى في شمال العراق ، علما بأن الأتراك يتحدثون بلغة مماثلة وقد تسببت المواجهات الكردية التركية بخسائر بلغت مليارات الدولارات وعشرات ألوف الضحايا ، وفي سوريا أخذت الحركة الكردية تعبر عن نفسها لتجاوز حالة التهميش التي تجعل من الأكراد في سوريا نوعا من "البدون" في وطنهم ، وكذا الحال بالنسبة لأكراد لإيران.

ليس هناك حل سحري سهل للمسألة الكردية ، فسايكس وبيكو عندما قسّما المنطقة بين الدولتين الاستعماريتين ، نجحا في توريث "الروح الانقسامية" عند الطبقات الحاكمة للدولة المتكونة بفعل اتفاقيتهما الأشهر ، فنحن نهجو الرجلين ليل نهار ، بيد أننا لم نفعل شيئا ولن نفعل شيئا لتخطي الخطوط والحدود التي رسماها عنوة ، والأرجح أن المسألة الكردية التي نشأت عن المرحلة الكولونيالية ، وتفاقمت في مرحلة الاستقلالات الوطنية ، تعاني اليوم وقد تعاني مستقبلا ، من توطد ونفوذ تقسيمات سايكس بيكو وخرائطها.

لكن من يدري ، فاضمحلال الدولة القُطرية لصالح مكوناتها المذهبية والطائفية والإثنية ، وهو اتجاه سائد في الشرق الأوسط ، قد يعيد فتح نافذة الأمل لدى الأكراد باستعادة وحدتهم القومية في "دولة ـ الأمة" ، وربما بدءا من العراق ، فالأكراد العراقيون اليوم ليسوا الأكثر حماسة للفيدرالية ، ولا هم الأكثر ميلا للتقسيم ، بعد أن سبقهم على هذا المضمار عراقيون عرب ذهبوا بعيدا في "التطيّف و"التمذهب".

أيا يكن من أمر ، فإننا كغالبية عربية ـ سنية في هذه المنطقة ، وعلى اختلاف انتماءاتنا الفكرية والسياسية ، قد مارسنا نوعا من التواطؤ على القضية الكردية ، بدءا من استمرائنا الواقعي لمخرجات سايكس بيكو مرورا بتصفيقنا للنظم الديكتاتورية وانجرارنا وراء شعارات قومية شوفينية ، وانتهاء بتغليبنا البعد الأممي ـ الماركسي سابقا والإسلامي لاحقا ، على المسألة القومية وحق الشعوب في تقرير مصيرها ، فكانت النتيجة علاقة عربية كردية تتأسس على ارث عميق من سوء الفهم وانعدام الثقة.

مصادر
الدستور (الأردن)