حين وقف الرئيس الأميركي جورج بوش ليلقي خطابه السنوي أمام مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس الأميركي قبل خمسة أعوام، كانت شعبيته قد بلغت أوجها، وربما أحس بشعور لم يشعره رئيس قبله. فالولايات المتحدة كانت قد انتهت لتوها من رد الفعل ضد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، في استعراض نادر للقوة الأميركية تم من خلاله تدمير أفغانستان بالكامل بمؤازرة شعبية شبه كاملة، حيث وقف العالم بأسره متطلعاً إلى الدور الذي ستلعبه إدارة بوش من خلال ما سيبينه لهم في خطابه السنوي المهم.

ولكن في الأسبوع الماضي حين وقف الرئيس الموقف ذاته، لا شك أنه أحس بشعور مختلف للغاية. فحربه التي شنها قبل خمسة أعوام لم تؤت أكلها بعد، وأعداؤه من «الإرهابيين» يزدادون عدداً وعدة، وشعبيته داخل بلاده في تدهور مستمر، وفوق ذلك كله بلاده منقسمة سياسياً قسمة لا تبدو لمصلحته.

ليست المرة الأولى التي يواجه فيها الرئيس بوش شعبه في ظروف كهذه، ولكن لهذا الخطاب أهمية خاصة. فهو الخطاب الوحيد المنصوص عليه في الدستور الأميركي. حيث أشار البند الثالث من المادة الثانية إلى أن يقدم الرئيس تقريراً للكونغرس عن حالة الاتحاد كل عام، واستقر العرف الأميركي منذ أقل من مئة عام على أن يكون هذا التقرير في آخر ثلثاء من كانون الثاني (يناير)، وأن يلقيه الرئيس شخصياً. ولأهميته هذه، اعتاد كثير من الرؤساء الأميركيين أن يخلقوا من هذه المناسبة فرصة لزيادة شعبيتهم، من خلال ما يعرضونه في خطاباتهم السنوية، وهو الأمر الذي لم يوفق إليه الرئيس بوش هذه المرة.

فقد بدا واضحاً على ملامح خطاب الرئيس – الذي شاهده قرابة 45 مليون شخص - اهتمامه بالشؤون الخارجية أكثر من ذي قبل، وهو – وإن كان غير مستغرب بسبب التدخلات الأميركية في الصراعات الدولية - إلا أن اهتمام خطاب الاتحاد بالشؤون الخارجية عادة ما يكون مؤشراً لما سيشهده العام من عمق التورط الأميركي خارج الولايات المتحدة. فقد أكدت دراسات علمية عدة بنيت على التجربة والملاحظة أن مقدار ما يعطيه الرئيس الأميركي من اهتمام للشؤون الخارجية في خطابه السنوي عن حالة الاتحاد أمام مجلسي الكونغرس، غالباً ما تكون له انعكاسات موازية في واقع السياسات الفعلية للولايات المتحدة في العام ذاته.

وفي حالة الرئيس بوش، فإن مقدار ما أعطاه للشؤون الخارجية في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد يعادل قرابة الثلثين. وهذا غير نافع للرئيس الذي يخالفه شعبه الرأي في سياساته الخارجية، خصوصاً استمرارية وجود قواته في بلدان أخرى كالعراق، وهو الأمر الذي واجه فيه الرئيس بوش معارضة واضحة أثناء وبعد إلقاء خطاب حالة الاتحاد لهذا العام.

فقد استمع الكونغرس المعارض الذي تريد غالبيته وضع حد لوجود القوات الأميركية في العراق، إلى تأكيد مقترح الرئيس المتضمن إرسال 21500 جندي إضافي إلى العراق. وأثارت كلمة بوش التي أولت اهتمامات للشؤون الخارجية على حساب الشؤون الداخلية استياء كثير من المواطنين الأميركيين الذين أعربوا عن رغبتهم في تفرغ حكومتهم لشؤون المواطنين الداخلية، كشؤون الصحة والتعليم والضمان الصحي والاجتماعي وغير ذلك.

ففي خلال 49 دقيقة، جاءت إشارات الرئيس بوش في خطابه السنوي السابع منذ توليه الرئاسة إلى «الإرهاب العالمي» والوضع العراقي في مرات عدة مقرونةً بالتفاؤل حيناً والتشاؤم أحياناً أخرى. ففي الوقت الذي تكرر فيه ذكر كلمة «العراق» 16 مرة في خطاب العام الماضي 2006، زاد عدد المرات التي جاء فيها ذكر كلمة «العراق» في خطاب الثلثاء الماضي ليصل إلى 34 مرة. وكذلك تكررت كلمة «نفط» في خطاب هذا العام 9 مرات مقارنة بـ 3 مرات في خطاب العام الماضي. ليس هذا فحسب، بل إن التفصيل الذي صاحب ذكر هاتين الكلمتين وغيرهما من الكلمات كـ «القاعدة» و «أسامة بن لادن» و «حزب الله» و «إيران» و «الأصولية الإسلامية» وغير ذلك استلزم من الرئيس أن يخوض في أمور أحسب أن الشعب الأميركي ليس في حاجة إلى سماعها اليوم، كتفصيله – على سبيل المثال - لـ «الإرهاب السني» ومقارنته بـ «الإرهاب الشيعي»، في وقت بدأت فيه المظاهرات تجتاح العاصمة الأميركية أمام مقر إقامة الرئيس وعلى خطوات من مكان إلقاء الخطاب السياسي.

وهو الأمر الذي دعا المتحدثة باسم مجلس النواب – التي بدا عليها الامتعاض أثناء معظم خطبة الرئيس - إلى التصريح بعيد انتهاء خطبة الاتحاد، بقولها: «للأسف يبدو أن الرئيس لا يصغي إلى أكبر هموم الشعب الأميركي وهو الحرب في العراق».

وبمناسبة ذكر المتحدثة باسم مجلس النواب – التي تشغل ثاني أهم منصب في حال خلو منصب الرئيس لأسباب استثنائية - جاء تعليق ساخر لعضو مجلس الشيوخ الديموقراطي إدوارد كينيدي الذي قال: «إن أفضل عبارة سمعها في خطاب بوش هي: سيدتي الرئيسة»، في إشارة إلى كلام للرئيس بوش أثناء انتخابات التجديد النصفي في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي حين قال: «إن هذه السيدة التي تطمح إلى زعامة مجلس النواب لن تنجح».

على انه من الطريف أن خطاب حالة الاتحاد لهذا العام لم يخل من التناقض أيضاً. ففي حين زعم بوش أن إدارته تدعم نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط وبقية أنحاء العالم، هاجم أعداء الولايات المتحدة الذين يريدون الخروج على الحكومات المعتدلة! ولم يبين الزعيم الذي يريد توسيع نشر خطته - التي بدأت من العراق - في تصدير الديموقراطية، كيف تغاضت إدارته التي جاءت بـ «الديموقراطية» في أفغانستان عن حكومة جارة لها وصلت إلى الحكم عن طريق انقلاب عسكري على حكومة منتخبة! تماماً كما لم يبين زعيم الحريات في العالم، كيف قبلت إدارته التعامل مع نظام عربي كان إلى وقت قريب يتصدر قائمة الخارجية الأميركية للدول الراعية للإرهاب!

ولكن، لعل السمة الأبرز لخطاب الرئيس - الذي تخلله تصفيق 54 مرة - هو الانقسام الواضح بين الحزبين في رد الفعل المباشر على خطابه. ففي الوقت الذي خيم فيه الصمت على الحضور حين استعرض بوش الانتكاسات التي حدثت في العراق عام 2006، كان الانقسام الحزبي واضحاً، حين رفضت الغالبية الديموقراطية الوقوف والتصفيق لبعض أقوال ومقترحات الرئيس عن الوضع في العراق، التي أعرب الأعضاء الجمهوريون عن تأييدهم لها بالوقوف والتصفيق. وهو أمر غير مألوف، وينم من دون شك عن انقسام حزبي يؤذن بحرب داخلية بين الجمهوريين تحت قيادة بوش في البيت الأبيض، والديموقراطيين الذين استطاعوا أخيراً السيطرة على شقي الكونغرس، ويسعون لاحتلال البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة.

ومن أجل ذلك، ولكسب أصوات الناخبين في انتخابات الرئاسة المقبلة بعد أقل من عامين، بات جلياً عزم الديموقراطيين في هذا الكونغرس على استثمار رغبة الشارع الأميركي في إبداء معارضتهم بقوة لسياسات الرئيس في العراق، ومنها زيادة عدد القوات المقترحة. وإذا ما تم لهم ذلك، فإن هذا الانشقاق ربما يؤذن ببداية عصر جديد في تحول سياسة الولايات المتحدة الخارجية عموماً وفي العراق خصوصاً، من خلاله يتهيأ للمقاومة العراقية – بسبب هذا التفكك الداخلي- نصير سياسي في واشنطن، يعينها على تحقيق مأربها، وقد بدت ملامح هذا العصر.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)