فور وصولي إلى البيت وقبل أن تردّ زوجتي على تحيتي, انبرت تتحدث بتدفق يصعب على (ناصر قنديل) مجاراتها. وفهمتُ منها بأن الحكومة استقالت بسبب كثرة الحكي عليها, وأنها ارتاحت أخيراً من منتقديها وخاصة من لساني (الزفر).
وضعتُ كيس الخضار على طاولة المطبخ وأنا بحالٍ من الذهول والاستغراب! إذ لم يسبق أن قدّمت حكومة عربية استقالتها - اللهمّ باستثناء لبنان - إلا بطلب من فخامة الرئيس, أو جلالة الملك, أو سمو الأمير..
سألتها متلعثماً والسعادة ترفرف في فؤادي: كيف, ولماذا, ومتى حصل ذلك؟!
أجابت وهي تفتش بكيس الخضرة ما أحضرته, فلربما أكون قد نسيت شيئاً من قائمة المشتريات التي تزوّدني بها (يوم أي, يوم لأ):
  منذ ساعة تقريباً, وبينما كنت أشاهد برنامج (الشيف اصطيف) قرأت على الشريط الإخباري خبر استقالة الحكومة..
  يا إلهي منك! ألم يدفعك فضولك للتأكد من صحة الخبر من خلال نشرة أخبار في إحدى الفضائيات؟
  تركتُ لك هذه المهمة اليومية بل الساعيّة, اذهب وبحْبشْ على كيفك بالتلفزيون..
هرعتُ إلى محطة لا أخال أحداً من بني يعرب يستغني عنها ويفضّل متابعة فضائية بلده عليها. وجلستُ منشرحاً متلهفاً لإطفاء ظمأي التاريخي بمتابعة الأحداث السياسية. وذلك بعد أن وضعتُ نظارتي المقرّبة والمكبّرة على عينيّ اللتين أصابهما الضعف البصري (ليس بسبب سنوات الاعتقال بالطبع). ومن حسن حظي فقد كانت عقارب الساعة تشير إلى نشرة أخبار دسمة. استهلّ المذيع النشرة بالعناوين وكان في صدارتها نبأ استقالة الحكومة. وفي التفاصيل: فقد تقدّم رئيس الحكومة بطلب استقالة حكومته إلى السيد الرئيس بسبب غلاء البصل الأخضر!
إذ من غير المعقول أن تكون الحكومة عاجزة عن التحكم بأسعار السوق وتقف مكتوفة الأيدي, ليقال عنها أنها (لا بالطشّ ولا بتنشّ).
اقتربت زوجتي وجلست إلى جانبي تقشر الثوم سائلةً:
  شفت؟ ألم أقل لك أن الحكومة استقالت؟
  (أجبتها مختصراً ليتسنى لي متابعة الخبر) شفت..
  لا تنسى الحلوان هه!
  حاضر..
ويبدو أن إجاباتي المقتضبة أزعجتها, فما كان منها إلا أن وضعت حبة ثوم بفتحة منخري مازحة:
  مم, وما هو سبب استقالتها يا ترى؟
  (عاطساً) آآتش.. غلاء البصل الأخضر..
  (نظرت صوبي بفرح وحماسة) ياي, يعني أننا أصبحنا من البلدان الراقية..!
  آآتش.. طبعاً, فالكثير من الحكومات المتحضّرة تقدّم استقالتها لأسبابٍ تافهة, كتدنّي درجات الحرارة إلى أقلّ من معدّلها السنوي, أو وقوع طائر من عشه, أو تغيّر ألوان الفراشات الربيعية دون تفسير علمي, أو انقطاع الكهرباء عن قرية نائية لمدة ثلاث دقائق, أو إصابة أحد طلاب الجامعة بنوعٍ من الإحباط بسبب ضعف ثقته بالمستقبل, أو قبول أحد الموظفين رشوة بالرغم من حالة البحبوحة التي يحياها.. وما إلى ذلك.
  ولكن تلك البلدان التي تقع فيها مثل هذه الحوادث, تخلّصت من أهم المشاكل التي نعاني منها!
التفتّ إليها غاضباً لأنها لم تنتبه لسخريتي:
  وهل تريدين من حكومتنا أن تعلن استقالتها بسبب زيادة القمع والقهر والمهانة, وانتشار البطالة والعنوسة والانحراف الاجتماعي, والارتفاع الجنوني للأسعار, والتفشي المرعب لثقافة الفساد, والعجز المزمن عن تحرير الأرض المحتلة, و..
وإذ بالباب الخارجي يُدق!
انتفضتُ مذعوراً من نومي, ليدخل جاري منفعلاً والشرر يتطاير من عينيه, وكأن عدوى الغضب قد انتقلت إليه بالتخاطر. حتى أنه لم يلقِ تحيّة ما بعد القيلولة. وأطلق صلية من الشتائم على الحكومة أجفلتني وأيقظتني تماماً. وختمها بقوله:
  يا أخي اكتبْ عن غلاء البصل الأخضر اكتبْ, هل يعقل أن يصبح الكيلو بـ 70 ليرة؟