على الرغم من رعاية بلدية أنطاكية لأفتتاح فيلم المخرج الأنطاكي سمير أصلان يوريك ، ( في الطريق الى البيت )، الا انه كان شأنا اجتماعيا خالصا فالعديد من الفعاليات الاجتماعية الاقتصادية والسياحية تكاتفت من أجل تكريم ابنها المخرج السينمائي الذي حمل فيلمه اليها ليبدأ رحلة العرض من بلدته الأم ، لم يكن الأمر معقدا ولا متطلبا ولا متصنعا ، ليبدو أن التكريم كمبادرة ينتمي الى عالم ابسط على الرغم من مظاهره الاحتفالية ومشاركاته الاقتصادية ، انه واحد من مسؤوليات الانتماء .

في محاولة لجعل الدرامة الوعاء الاساسي لأستيعاب الطرح الفكري ، يتجاوز المؤلف / المخرج سمير أصلان الدقة التاريخية ليجعل من حكاياه مرسلة دون الخضوع الى التراتب الزمني والجغرافي الذي يحكمها كأخبار تاريخية تقودنا الى جدل سياسي لم يرده المخرج ، فالمجتمع بالنسبة له هو المولد لأية قصة مهما كانت مرجعيتها أو نتائجها ، صحيح أنه قادنا عبر مقدمة فيلمه الى اجواء الحرب العالمية الأولى ألا أن وقائعها التاريخية كانت مرتبة حسب الأولويات الانسانية ، فليس مهما ان يخوض الانسان معركة الترعة أو أية معركة غيرها طالما هو ليس مهيئا أو صالحا لحرب في خضم التغييرات الأجتماعية الهائلة وهنا ليس مهما أسم المعركة وتاريخها وحتى مكانها ، فالحرب ليست للمهزومين سلفا وهم في عقر متحدهم الاجتماعي الصغير ، الذي يجب عليه أن يجيب على أسئلة التحول الاجتماعي كي يستطيع خوض حرب عالمية ، هي ليست مجرد ... سفر بر.. لك .

الفيلم يحكي حكاية المجتمع الذي يريد مكاسب الحداثة شرط ان يبقى على بنيته التقليدية ، فها هو بطل الفيلم محاصر بقيم هذه البنية ألاقطاعية القبلية من وجهة والتقاليد الجهل من وجهة أخرى ، وعليه ومع هذا الانسداد في أفق شخصية تسعى الى الحياة ، أن يذهب للخدمة العسكرية بدلا عن ابن ألآغا في منطق ذرائعي يخسر فيه بطل الفيلم كل شيىء مقابل أن يخوض معركة بلاده بشرف ، ليطرح الفيلم سؤاله الجريء عن معنى الشرف ، في مجتمع تمارس فيه كل المبوقات تحت مسمى الشرف ، لتبدأ رحلة الهروب من الجيش والعودة الى الديار ، والتي تبدو وكأنها رحلة الخروج من ألأوهام ، تتكشف اللعبةالفسيفسائية لعلاقة التخلف والجهل مع الاستعمار ليستحضر المخرج غورو ، ولورانس بالتوازي مع جمال باشا ، في معركة الحداثة ذاتها حيث تحدد نتائجها البنية الاجتماعية بنفسها ، فالمعارك تحدد حقيقة القوة ، يعبر الهاربون سوريا حيث يبدو الشوق اليها في كل لقطة ، وفي دمشق يتم القاء القبض عليهم كفارين وخونة ،ويتم شنقهم ولكن بطل الفيلم يستطيع الفرار ويتابع طريقه شمالا الى انطاكية التي تعني حبيبته التي لم تفارق مخيلته ليصلها ليرى ألأفرنسيين بانتظاره كمستعمرين جدد للمنطقة ، ليعود سؤال الفليلم نفسه متكررا ولكن بغضب شديد هذه المرة .

يقول المخرج الانطاكي سمير أصلان يوريك صاحب الفيلم ، الحداثة لا تتجزأ ، فالمظلومون والجهلاء والمضحوك عليهم لا يقاتلون حتى ولو تحلو بصفات البطولة والنخوة والمروءة والجرأة ، فالانسان حتى لو أجبرته الذرائعية في قسريتها ، الا أنه دائم التوق الى انسانية يخبؤها لنفسه ولأحبائه .

على الصعيد السينمائي يبدو الفيلم مشغولا بحرفية جيدة ، خصوصا في مسألتي الملابس والديكور حيث تحتاج هكذا أفلام الى الدقة والجمالية في تصميمهما ، لتصبح علاقة الممثل والصورة بهما علاقة عضوية ، ليرى المشاهد اناسا يتحركون وهم في وضعهم الطبيعي ، وهذا ما نجح فيه الفيلم لنرى شخصيات سينمائية محققة الحضور ضمن الظرف الفني المخدوم ، ولم نر شخصيات مشروطة بملابسها كالرسوم التوضيحية ، حيث نجح المخرج في ادارة ممثليه حتى في أدق التفاصيل دون الولوج في تفسيرات أخلاقية ، فالسينما وان لم تكن الحياة نفسها الا انها صورة موازية عنها تدخل في تلافيفها وتنقلها بأمانة وجمال عبر حراك الدرامة ، خصوصا عندما تتقاطع مع تصوير متقن وجميل .

لقد استطاع سمير اصلان أن يصنع فيلما متقننا يحكي فيه عن همومه ورؤيته للحياة ، ولكنه لم يهمل الشق الأقتصادي ، فهو يعي تماما أن السينما فعالية حداثية لا ينفصل فيها الفن عن الاقتصاد ‘ فصنع فيلما كي يشاهده الناس ويستمتعون بالذهاب الى دور السينما ، فهو وعلى الرغم من كونه فيلما محليا ( انطاكيا بالتحديد ) الا انه يتوجه الى كافة المتفرجين في العالم وكأنه فيلم لا يحسب حساب الآخر وانما يحسب حساب الكل ، وكأنه يقول لمتفرجيه في مشهده الختامي وجبل الأقرع السوري يكلل انطاكية ... انهم هناك ... انهم هناك ... الناس والحب وكل شيىء .