لا نحتاج لكثير من الجهد لنثبت كيف ان دعوى الديمقراطية مقرونة بنماذج فشل الدولة، في هذه المنطقة من العالم قد أدت فيما ادت اليه الى شيوع العنف جنبا الى جنب مع انتشار الفقر والاحباط والتطرف.

ولا نحتاج لمزيد من البراهين والادلة لنؤكد ان ما نعانيه من هذه النتائج قد جاء بأيدينا في الداخل، مصحوبة بأيديهم من الخارج، وكلها في النهاية اياد تحالفت علينا، دفاعا عن مصالحها المشتركة، مصالح من يريد الاستمرار قابضا على صولجان الحكم متحكما في الثروة، جامعا بين زهو السلطة وبريق المال، ومن يريد الحفاظ على مصالحه الحيوية العديدة، في ظل الهيمنة الكونية الجديدة!

هكذا وجدنا انفسنا محاصرين بين خيارين احلاهما مر، العنف المحتمي بالديمقراطية، بل بدعاواها او ادعاءات الديمقراطية المتسامحة مع العنف وهو ما يثبت لنا ان كل ما قيل ويقال من جانب اميركا وحلفائها عن اجراء اصلاحات ديمقراطية في البلاد العربية بداية بمصر لتكون مقدمة رمح لمحاربة العنف والارهاب والتطرف انما هو كذب بواح ومخادعة وتدليس ومخاتلة ان كانت قد انطلت على البعض في فترات سابقة، فهي قد انكشفت الآن بأجلى صور الفضيحة!

ومنذ ان تبنت ادارة الرئيس الاميركي بوش حملة نشر الديمقراطية في بلادنا في عام 2002 وحتى الآن مقرونة بحملة الحرب «المقدسة» ضد الارهاب ونحن لا نكاد نلمح تقدما حقيقيا في اي اصلاح ديمقراطي حقيقي في اي دولة من دول المنطقة مثلما نتأكد الآن ان وتيرة العنف قد ازدادت حدة منتقلة بحرية واضحة من افغانستان الى العراق ومن العراق الى السودان ومن فلسطين الى الصومال.. الخ.

فبأي حجة يعاود الرئيس بوش حديثه الممل عن الديمقراطية في الشرق الاوسط وعن الانتصار في الحرب ضد الارهاب «الاسلامي»!

ففي خطاب حالة الاتحاد الذي ألقاه بوش الاسبوع الماضي لم يتوقف طويلا امام خطته في فرض الاصلاحات الديمقراطية على الدول العربية كما كان يجاهر في الماضي القريب بل انه عبر هذا المأزق سريعا، واكتفى بالقول بما معناه ان اقتناع الدول المعتدلة مثل مصر والسعودية تحديدا، بالديمقراطية سيؤدي الى مقاومة العنف ويساعد في مواجهة الارهاب.

وفي تفسيره لذلك قال متحدث باسم الخارجية الأميركية ان ادارة الرئيس بوش لن تغير اتجاهها بدعم التحولات الديمقراطية في البلاد المذكورة، ولن تتوقف عن مساعدة هذه النظم في الاستجابة لمطالب شعوبها دون تدخل مباشر من جانب أميركا.

ولعلنا نضيف الى ذلك استشهادا آخر، يؤكد ما ذهبنا اليه منذ سنوات، من ان أميركا غير جادة في مسألة نشر الديمقراطية ومقاومة نظم الفساد والاستبداد الحاكمة، لأنها تفضل في كل الاحوال الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة، حتى لو تحالفت مع نظم تراها استبدادية وفاسدة!

والاستشهاد هو ببساطة المقارنة بين الحديث «المحاضرة» الشهير للسيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية في الجامعة الأميركية بالقاهرة، خلال عام 2005 الذي القت خلاله بمجموعة من الصواريخ الموجهة، حول اصرار واشنطن على اجراء اصلاحات ديمقراطية في مصر والبلاد العربية، وصولا للتهديد بوسائل الضغط الخشن، الأمر الذي اثار ابتهاج المتأمركين العرب الذين ادمنوا استعداء أميركا حتى على بلادهم، ثم نقارن ذلك مع التصريحات الهادئة النبرة ناعمة الملمس لنفس الوزيرة، التي أدلت بها عن تباطؤ الاصلاحات الديمقراطية في مصر، خلال زيارتها الأخيرة للأقصر قبل أيام.

لا شك ان البون شاسع بين الموقفين لنفس الادارة ولنفس المتحدثين باسمها، فالعبرة هنا ليست مصر أو غيرها من الدول المعنية وليست الديمقراطية ولا غيرها من المبادىء والقيم، ولكن العبرة بحماية المصالح الحيوية الأميركية، وبكيفية تجنيد ما تسميه «مجموعة الدول العربية المعتدلة مصر والاردن ودول الخليج» للمساعدة الفعالة في انقاذها من المقتلة الدائرة في العراق، وللاحتشاد معها ضد ايران وسوريا وحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، الذين تراهم محور الشر ومنتجي العنف والارهاب!

وبالتالي فإن عصا الديمقراطية «الغليظة» التي رفعتها واشنطن على مدى السنوات الماضية ضد النظم الحاكمة في المنطقة كان هدفها تخويف هذه النظم وارباك سياستها، ودفعها الى مزيد من الانصياع والخضوع للاستراتيجية الأميركية دون تبرم أو حتى تململ، وحتى لو أدى هذا الانصياع الى التضحية ببعض المصالح والاهداف العربية واهمها الاستقلال والسيادة الوطنية!

ومن الواضح أن طرفي شد حبل الديمقراطية، النظم العربية الحاكمة والادارة الأميركية، قد اكتشفا في وقت واحد نقاط القوة والضعف عندهما معا، ووجدا أن العنف والإرهاب هدف مشترك يجمعهما في صف واحد ويجند قواهما في خندق واحد مما يدفعهما إلى التعاون والتنسيق الأكبر، فتخلت الإدارة الأميركية عن ورقة الإصلاح الديمقراطي، وتخلت النظم العربية عن ترك أميركا تغرق وحدها في المستنقع العراقي الدامي.. وقررا العمل المشترك في هذا الإطار، وضمن استراتيجية بوش الجديدة، التي ان قوبلت بترحيب محور الاعتدال العربي صراحة، فإنها للغرابة قوبلت بمعارضة أميركية واسعة داخل الكونغرس وفي الشارع وفي الاعلام وبين جماعات المصالح!!

وبقدر ما اعتبر المعارضون الأميركيون لاستراتيجية بوش هذه، أن التأييد الصارخ للمعتدلين العرب لهذه الاستراتيجية، هو بمثابة نفاق وانتهازية سياسية، يحتمي بها المستبدون المعادون للديمقراطية في الشرق الأوسط، بقدر ما أن إدارة بوش توصلت لصياغة جديدة، قوامها أن من يؤيدها في المنطقة هم الديمقراطيون والليبراليون الحقيقيون. بصرف النظر عن كل ما تقوله شعوبهم عنهم، بل عن كل ما قالته هي عنهم من قبل!

هكذا وقعت قضية الإصلاح الديمقراطي، ضحية بين طرفي شد الحبل، بعد أن تحالفا معا ضدها، وباتت هذه القضية متراجعة من حيث الفكر والتطبيق، من حيث الوعود والعهود التي تبتلع وتنقض، ومن حيث الخطوات والإجراءات التي تتلكأ ثم تجهض نهائيا، رغم كل مطالب الشعوب وتطلعها للحرية والسيادة، ولم يحدث ذلك بسبب تخلي أميركا عن ضغوطها، بقدر ما حدث نتيجة المقايضة المشبوهة، وتيقن الحكام من أن عصا الديمقراطية الأميركية، لم تكن غليظة ولن تكون!!

ونظن أيضا أن طرفي شد الحبل، قد توافقا مؤخرا على أن تبعات الديمقراطية ونتائج التحول الإصلاحي الحقيقي، هي تبعات ونتائج معادية لهما ومضادة لمصالحهما المشتركة، وها هو النموذج الفلسطيني يقدم الدليل، ففي ظل الديمقراطية والانتخابات الحرة الشفافة، نجحت «حماس» الموسومة بالراديكالية الإسلامية، مثلما تمكنت التيارات الإسلامية السياسية، في إثبات وجودها، عبر صناديق الانتخابات في مصر والأردن والكويت والبحرين والمغرب واليمن وغيرها، بما قدم للطرفين مبررا للانقضاض، ليس فقط على هذه التيارات، ولكن على كل مقولات الاصلاح الديمقراطي، حتى وان ظلت عمليات التجميل الإصلاحي والتزويق الديمقراطي قائمة ومستمرة!

في أميركا مفكر مشهور عالميا هو «نعوم تشومسكي» ليبرالي الفكر يهودي الديانة، معاد للصهيونية والعدوانية إسرائيل، بقدر ما هو معاد لغطرسة القوة الأميركية المنفلتة، أصدر مؤخرا كتابا مهما بعنوان «الدولة الفاشلة»، ولم يجد بالطبع نموذجا للدولة الفاشلة، افضل من الولايات المتحدة الاميركية، لانها تطبق المعايير المزدوجة، وتتحدث بلسانين اولهما اخلاقي عن قيم الحرية والعدالة والمساواة وثانيهما انتهازي برغماتي يمارس العنف المفرط بشن الحروب الدامية غير المبررة اخلاقيا ويرتكب الجرائم والفظائع والمذابح باسم الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية والمحصلة هي ان هذه دولة فاشلة لانها بفضل هذه المعايير المزدوجة والممارسات الانتهازية تجلب للشعب الاميركي عداوات الآخرين وكراهيتهم وتعرض الامن القومي الاميركي للاعتداءات والدمار وتستفز الآخرين لمقابلة عنفها بعنف مضاد. يضيف تشومسكي انه باسم العدالة والقيم الاخلاقية وبمادئ الحرية شنت اميركا وتشن اسوأ الحروب ضد الآخرين، وتستخدم قوتها الطاغية في فرض الحق الذي تدعيه وتنتهك حقوق الانسان مثلما تنتهك سيادة الدول واستقلال الشعوب وتمارس العنف والارهاب علانية باسم الشرعية الدولية وهي حين تفعل ذلك لا تمل الحديث الممل عن فرض الديمقراطية وترويج قيم الحرية الاميركية! ثم يتنبأ تشومسكي بقرب نهاية العالم وقيام القيامة نتيجة المبالغة الاميريكة في زيادة النزوع العسكري واعتماد القوة المسلحة سواء عن طريق ترسانتها النووية او عن طريق عسكرة الفضاء او عن طريق تلويث البيئة الذي تتحمل اميركا المسؤولية الرئيسية عنه، باعتبارها اكبر دولة صناعية وأكثر دولة استخداما للمحروقات والمتسبب الاول في انبعاث الغازات وبالتالي حدوث الاحتباس الحراري الذي بات يهدد البشرية بالفناء! ليس هذا فقط ولكن تشومسكي يؤكد ان السياسات العدوانية والممارسات الخاطئة التي تمارسها الادارة الاميركية الحالية بقيادة بوش خصوصا سياسة شن الحروب في العالم وتحديدا في افغانستان والعراق فضلا عما تفعله اسرائيل بالفلسطينيين قد ادى الى زيادة العنف وصعود التيارات الدينية الراديكالية بل والى تحويل الارهاب الى هدف يرتجى لكي يقاوم الارهاب الاميركي اما حكاية الاصلاحات الديمقراطية فلا مجال لها في عرف الدولة الفاشلة! تشومسكي لا يتدحث للاميركيين فقط ولكني اعتقد ان حديثه هذا في كتابه المهم مهدى الى الحكام العرب جميعا والى جماعة المتأمركين العرب تحديدا، لعلهم يقرأون ويستوعبون ويفهمون!

مصادر
الوطن (قطر)