في أواسط القرن التاسع عشر، أراد أحد مستشاري الامبراطورية النمساوية المجرية تلخيص تجربته المديدة في العمل في الشؤون الدولية، فكتب رسالة إلى ابنه الذي كان يعد نفسه بدوره للعمل السياسي مطلقاً فيها جملة ذهبت مثلاً: “انت لا تدري يا بني كم يدار هذا العالم بالقليل القليل من الحكمة”.

وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، يبدو أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وصل إلى الاستنتاج نفسه. قال في موسكو مؤخراً في خضم وساطته الراهنة غير المعلنة بين واشنطن وطهران: “الكثير من المشكلات فى الشرق الأوسط يرتبط بالإحساس المضلل بالاعتزاز بالنفس. ذلك أنه بمجرد أن يردد أحد أية عبارة، لا يستطيع التراجع عنها لاحقاً. وهذا يعتبر سياسة غير مرنة وقصيرة النظر”.

من عنى الوزير الروسي بهذه المقولة التهمة؟

حتماً إيرانيي أحمدي نجاد ومحافظي جورج بوش معاً. فالطرفان كلاهما يبديان حالياً كل مظاهر الاعتداد بالنفس والثقة بأنهما قادران على ان تكون لهما اليد العليا في النزاع الحالي. وكلاهما متأكد بأن الطرف الآخر “يبلف” (يراوغ) ويضمر غير ما يعلن.

النجاديون، مثلاً، مطمئنون إلى أن الولايات المتحدة غرقت في مستنقعات العراق وانتهى الامر، وبالتالي لم يعد أمامها سوى الانسحاب بمحض إرادتها أو “تسول” تسهيل هذا الانسحاب من ملالي طهران. لا بل أكثر: إذا ما صدقنا تصريحات الرئيس الإيراني وبعض مساعديه الأخيرة، فإن ثمة من يعتقد حقاً في إيران بأن العد العكسي لنهاية الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط بدأ.

والبوشيون، مثلاً، وبرغم مشكلاتهم الجَمة في العراق ومتاعبهم الجديدة في الكونجرس الذي بات ديمقراطياً، ما زالت تراودهم رغبة جامحة في القفز من بغداد إلى طهران لإنجاز مهمة بناء الشرق الأوسط الأوسع هناك. حتى الآن ليست هذه الرغبة أكثر من ذلك: أي مجرد رغبة. لكن سلوكيات بعض القادة الإيرانيين المعتدة كثيراً بالنفس، مضافاً إليها حقيقة استمرار نفوذ المحافظين الجدد الأمريكيين الواثقين حتى النهاية بأنفسهم، تجعل احتمالات الصدام الإيراني الأمريكي واقعاً في أمر اليوم.

والحصيلة؟ إنها واضحة: استقطاب حاد بين الطرفين مفتوح على أحد احتمالين:

إما ان الطرفين يلعبان على حافة الهاوية للوصول إلى تسوية ما في العراق، لا يقتل فيها الناطور ولا يفسد خلالها العنب. أي: لا تراجع أمريكي كامل من بلاد الرافدين، ولا تقدم إيراني كبير فيها.

أو أن الجانبين سينزلقان سواء بقصد أو عن غير قصد إلى مجابهات صغيرة قد تنفجر لاحقاً إلى حريق كبير. أي: تحَول الاحتكاكات الراهنة على أرض العراق بين القوات الأمريكية وبين ال 30 ألف ناشط إيراني الذين تدعي منظمة مجاهدي خلق أنهم موجودون في العراق، إلى حرب جوية بحرية مدمرة قد تستمر أربعة أشهر وربما أكثر.

أي الخيارين الأقرب إلى التحقق؟

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)