فشل إعادة تأسيس الدولة في العراق من جديد لم يمنع جون نغروبونتي، المرشح لمنصب نائب وزيرة الخارجية الامريكية، من الحديث عن "العراق الديمقراطي" القادر على الخروج من دوامة العنف الطائفي. والأزمة في مثل هذا التصريح لا تتعلق بالثقة التي يملكها نغروبونتي، بل بالتضارب ما بين الآراء حول العراق، وعلى الأخص ما قاله "جون بولتون" قبل أيام بأن "لا مصلحة للولايات المتحدة بعراق موحد"، وهو أمر ظهر منذ بداية الحرب، لكنه يؤشر اليوم على أن الفوضى لا تعم الشارع العراقي فقط، بل وحتى طبيعة التفكير في "الدولة الإقليمية" التي يمكن أن تكون "ديمقراطية" أو "استبدادية".

عمليا فإن الولايات المتحدة تجاهلت في المراحل السابقة مسألة الدول المجاورة للعراق، وحصرت مطالبها بالشأن الأمني كضمان الحدود، وإذا كان هذا الموضوع يرتبط بالعراق وقوة الاحتلال فيه، فإنه أيضا ينتزع حق أي "دولة" في التعامل مع محيطها الجغرافي، ويسعى لتعامل مع مسألتين:

الأولى: أن شكل الدولة الإقليمية كما ظهر في المنطقة خلال وبعد الحرب العالمية الثانية أمر يخضع لحسابات جديدة بالنسبة للولايات المتحدة، فهي تريد تقديم "النموذج العراقي" كمثال للشرق الأوسط الجديد، وهو نموذج سياسي "غير مكتمل"، حاولت الإدارة الأمريكية تركيبه على طبيعة التكوين الثقافي والسكاني. وإذا كانت "الدولة الإقليمية" في الشرق الأوسط لم تنظر إلى التوازن السكاني إلا في إطار وجوده في "إطار الدولة"، فإن الولايات المتحدة أرادت رسم التوازن داخل المفهوم العام لـ"الدولة الافتراضية"، وتركتها عائمة على اقتسام السلطة دون تحديد "حقوقي" مباشر لما يمكن أن تكون عليه.

الثاني: إن وجود اخطاء تاريخية في ظهور "الدولة الإقليمية" لا يمنع من المراجعة والبحث، لكن الإدارة الأمريكية كانت تفترض أن هذه المراجعة يمكن أن تحدث في ظل "الصراع السكاني" الذي تم إشعاله بعوامل نقل الصراع ضد الإرهاب إلى داخل العراق. وبغض النظر عن المسؤولية بهذا الشأن التي يرجعها البعض إلى الرئيس السابق صدام حسين، لكن استراتيجية نقل الصراع تم تعميمها سريعا، فظهرت في لبنان وفلسطين، وتم أيضا الضغط على سورية من هذه الزاوية.

وفي المؤشرين السابقين تتم محاولة تعميم أن "الدولة الإقليمية" الحالية عاجزة عن مجابهة التطورات، وهو ما يدفعها للتحالف مع "الإرهاب" أو نبذ "الديمقراطية. وإذا كانت تجارب نصف قرن من الزمن تثبت بالفعل وجود خلل داخل دول الشرق الأوسط، لكن تسريع الحدث باتجاه "حل" المؤسسات السابقة أو تصفيتها يعطي تراجعا ثقافيا وعلى الأخص على المستوى الاجتماعي، فالصيغة المطروحة اليوم لا تتعلق بالمواطنية داخل الدولة، بل بتشتيها داخل المرجعيات المختلفة كما يحصل في ثلاث دول على الأقل في المنطقة. والدراسات حول الحلول كما تقدمها بعض مراكز الأبحاث لا تنهي "المركزية" التي تنتقدها الإدارة الأمريكية، بل توزعا على أطراف، ليصبح "الاستبداد" نموذجا اجتماعيا بدلا من كونه نموذجا سياسيا.

كل الاخطاء التي تراكمت منذ انهيار السلطنة العثمانية حتى اليوم لا تحمل على الاعتقاد بأن "الدولة" تحتاج لتهميش لصالح أطراف أخرى، بل على العكس فإنها تتطلب تكريسا جديدا لمصالح المجتمع داخلها من أجل تعميق الوعي نحوها والدفاع عنها.