لا استطيع الدخول إلى دائرة الخوف التي تقدمها "الحكمة"، لأن النماذج التي أحاطت بي بقيت دون حدود ما حلمت به أو قرات عنه، فالأجيال التي ظهرت أمامي في لحظة انتصار الحلم بقيت عالقة على مسارات العودة أو التفكير بدائرة الزمن، ثم انتهت بمجموعة من "التعاليم" ليس أقلها "الخلاص الفردي".

لأي واحد في هذا المجتمع يبقى "الخلاص الفردي" حلا افتراضيا يستطيع أن ينام عليه، لكنه يبقى في دائرة الخطر عندما تصبح الحياة العامة في وجهه، فأي خلاص فردي يمكن أن نواجهه اليوم ضمن دائرة العنف التي تلاحقنا من بغداد إلى غزة!! فـ"الحكمة" الغارقة ضمن الاستنتاجات السريعة لا تضع أمامنا سوى زيف التسرع، أو ربما البحث من جديد لأن العالم هو الذي يتشكل أمامنا وليس إيماننا الديني أو قناعاتنا الماورائية.

ولا أشعر بالأسف لأننا نقف في منتصف الحياة ثم نفكر للحظة بأننا ربما ننتهي، فيجرفنا التفكير نحو تقييم العالم، رغم أن الحياة أغنى من الحكم على مرحلة زمنية، أو البحث في التجارب التي شاهدناها ثم انهارت أمامنا، لكن الزمن أرحب، وربما لا تكفي تجربة قرن كامل سواء من عمر الاتحاد السوفياتي الذي انتهى أو الولايات المتحدة الباقية حتى الآن، كي نقدم حكما نهائيا، فالحياة تنتقل بسرعة من رؤية لأخرى، والتجارب السياسية هي في النهاية تجل لواقع أعمق، يعمل فيه الباحثون والمفكرون وهم يرون فضاء المستقبل أمامهم وليس عدد السنوات التي تحكم أجسادهم على الأرض.

أصحاب الحكمة بـ"الخلاص الفردي" ينتشرون عندما لا نرى سوى المساحة الضيقة من عمرنا، أو نحاول الابتعاد عن البحث في العمق بدلا من رشق النتائج على الخيبات التي عاصرناها، فعندما "تزول تجربة اليسار" أو "تنحسر" بعض الأحلام، فإن الحياة تبقى أقوى من التعبير عنها بـ"زيارة القبور" التي تصبح هاجسا لأصحاب الخلاص الفردي.

ربما يرى البعض أن المساحة الزمنية المتاحة لم تعد تسمح برؤية أملهم الذي تبنوه يوم عاشوا مراهقتهم، لكن الأمل هو كل لحظة فرح، وليس حالة تعيش دورة واحدة ... وهذا "الخلاص" يعبر عن ضيق المساحة التي حشرنا بها الأمل أو اختصرنا فيها الحياة ... فعندما نحاول رفع أعيننا نعرف أن التجربة لم تكن حكما قاسيا على مسيرة سياسية، بل هي صورة لشبق الحياة التي قادت البعض للبحث وقدمت صورا منتشرة على مساحة الحداثة، بينما بقي الهاربون الى "الخلاص" في دائرة واحدة من الحياة دون أن يستمتعوا بالحلم .. أو العلم .. لا فرق هنا لأن المعرفة هي التي تجعلنا نختار المستقبل بدلا من التفكير الدائم بـ"شاهدة القبر".

لا أعرف لماذا يصبح الرواد "شيوخا" بينما تشكل العالم على الومضات التي قدمها البعض... ولا أعرف لماذا نيوتن لم يفكر بالخلاص الفردي .. ولا غاليلو .. ولا حتى كارل ماركس الذي بقي يبحث ولم ير ظهور الاتحاد السوفياتي ... لا أعرف لماذا يصبح "المناضلون" في العالم مجالا لمتعة البحث عن المعرفة من "الميكانيك الكوانتي" إلى أحدث مدارس علم النفس، بينما يبقى الرواد في جغرافيتنا الخاصة أسرى التجارب الفردية ... وهل يحق لي أن أسأل "الحكمة" عن الجواب!!

في الخلاص الفردي رغبة على فرض التجربة الذاتية .. وفي ومضات الحداثة، وما بعد الحداثة، رحابة يمكن أن نعيشها دون أن نطبق على أنفسنا كتب الإيديلوجيا أو التراث أو المعرفة المسبقة، فالعالم يعيش في مراكز أبحاثه وفي تفكير أفراده ... وفي رغبة أي واحد لامتلاك تجربته لأنها حقه في الحياة، لكن الصورة الكاملة هي مجتمع ينظر نحو الغد، ويعرف أن الخلاص الفردي حاجة "ماورائية" وتبقى ضمن القلق الفردي دون أن تخلق تعميما يجعلنا نقصر عمر الأرض والبشرية على مجموعة تجارب عاصرناها.

خلاص فردي ... وطريق ثالث .. ونظام دولي يخنقنا، ولكننا نصر على نبش وجداننا بدلا من طرق الحياة وكسر المعرفة التي تكلست على عقولنا، فتظهر أجيال وتغيب أجيال ... ثم نرى "الخلاص الفردي" أخر زاوية للحياة ... بينما تسخر الدنيا من عدم قدرتنا على رسم ما نريد أو الاستمتاع بما نحن قادرون على إنجازه.