من يريد الوقوف على عمق التغير الذي طرأ على التفكير الاستراتيجي الاسرائيلي عليه قراءة مداخلات المشاركين الاسرائيليين في مؤتمر هرتسيليا الذي انعقد نهاية الشهر الماضي. التوجهات الجديدة يمكن تلخيصها بثلاثة محاور أساسية: الخطر الايراني،صعود الاسلام الأصولي المعادي لأميركا وللغرب ولإسرائيل، وكيفية معالجة العيوب التي ظهرت خلال حرب لبنان الثانية داخل المؤسسة العسكرية والمجتمع الاسرائيلي.

التبدل الجذري الاول هو تشديد المشاركين الاسرائيليين سواء ممن كانوا أصحاب تجربة عسكرية او سياسية على أن سبب عدم الاستقرار في منطقة الشرق الاوسط لا يعود الى عدم ايجاد تسوية للنزاع العربي - الاسرائيلي وانما الى محاولات ايران السيطرة على دول المنطقة عبر زعزعة استقرارها الداخلي ودعم "التنظيمات الارهابية" واضعاف الأنظمة العربية المعتدلة، بالاضافة الى صعود التيارات الاسلامية الراديكالية المعادية لإسرائيل وللغرب معاً والتي تعتبر نفسها اليوم في حرب مع الولايات المتحدة.

ويفند دعاة هذا الموقف كل ما حمله تقرير بايكر - هاميلتون ويشددون على ان كل تنازل جديد تفسره القوى العربية الراديكالية بأنه علامة ضعف من جانب اسرائيل وخطوة اضافية على طريق زوالها. فالمطلوب اسرائيلياً اليوم ليس مناقشة خطط للسلام واعادة احياء "خريطة الطريق" وانما بلورة مشروع بعيد المدى للتصدي للخطر الايراني الاصولي الداهم الذي بعكس النزاع مع الفلسطينيين والدول العربية يهدد جوهر وجود اسرائيل.

نقاشات هرتسيليا أظهرت بصورة لا تقبل الجدل ان المشكلة برأي المشاركين لا تكمن في استمرار الاحتلال الاسرائيلي لأراض عربية والظروف المعيشية غير الانسانية التي يعيشها فلسطينيو الضفة الغربية وغزة، ورفض اسرائيل أي حل سياسي للمأزق الذي تتخبط فيه السلطة الفلسطينية منذ وصول "حماس" الى الحكم، وانما الخطر هو في سعي ايران الحثيث كي تصبح قوة اقليمية تملك سلاحاً نووياً قادراً، وفق التصريحات الكثيرة لرئيس الجمهورية الايرانية محمود أحمدي نجاد، على ازالة اسرائيل عن الخريطة.

لم تعد مشكلة اسرائيل كيفية التصدي للمنظمات المعادية لها مثل "حماس" و"الجهاد الاسلامي" وحزب الله" وانما في كيفية افشال مشروع الهيمنة السياسية الايرانية على المنطقة ومنع ايران من الحصول على سلاح نووي قد يتسرب بشكل او بآخر الى ايدي تنظيمات اصولية راديكالية معادية لإسرائيل وللغرب عموماً. هذا هو الخطر الملح الذي يهدد اسرائيل مباشرة وفي العمق بحسب المشاركين في المؤتمر.

وعكست نقاشات مؤتمر هرتسيليا القلق الاسرائيلي العميق الذي احدثه عجز الجيش الاسرائيلي عن حسم المواجهة مع مقاتلي"حزب الله". فالمسألة كما تظهرها المداخلات المتعددة تتعدى مسألة تحديد المسؤوليات عن الاخفاق العسكري الى أمر أكثر حساسية يمس بالديموقراطية الاسرائيلية التي حوّلها النقد الداخلي القاسي وتبادل التهم بين المسؤولين الى اداة لإضعاف منعة المجتمع الاسرائيلي وانكشافه امام الخصم. الأمر الذي سمح مثلاً أن تصبح استقالة رئيس الاركان دان حالوتس من منصبه مدعاة تباه وافتخار لزعماء "حزب الله". لذلك ارتفعت المطالبات ترميم الذات الاسرائيلية التي اصابتها حرب تموز بأكثر من عطب وشحنها من جديد.

هذا ما عبر عنه بوضوح البروفسور اسرائيل (روبرت) ج. أومن من مركز للدراسات التابع للجامعة العبرية عندما قال: من دون حوافز لا يمكننا الصمود هنا. نحن هنا لأننا صهاينة، ولأننا نريد تحقيق حلم الذي نحلم به منذ ألف عام بأن يكون لنا بلد حر.

يرى أومن وكثيرون غيره من المشاركين في المؤتمر ان المساعي الاسرائيلية لتحقيق التسوية كان لها تأثير سلبي، فالانسحابات وفك الارتباط واخلاء المستوطنات بالقوة لم تعد تجدي وعلى اسرائيل ان تبعث برسائل قوية الى جيرانها او "ابناء العم" كما يسمونهم بأنها لم تتعب وانها ما زالت تملك الكثير من القوة والوقت. واعتبروا ان التنازل يؤدي الى الحرب أما الاستنفار والاعداد للحرب فيحملان وحدهما السلام.
باختصار يمكن وصف أجواء مؤتمر هرتسيليا الاخير بأنه حملة تعبوية قل نظيرها لإسرائيل ولحلفائها من اجل الاستعداد لمواجهة الخطر الايراني الزاحف على اسرائيل من الشرق ومن الشمال.

مصادر
النهار (لبنان)